مشمش أفندي

في عام 1937م خرج أول فيلم كارتون مصري، بشخصية (مصرية) اسمًا وسمتًا، إنه «مشمش أفندي»، لكنه ظهر على يد يهودي! إنهم الإخوة فرنكل: هرشل وسالومون ودافيد فرنكل، بعد استقرارهم في الإسكندرية في رحلة بدأت من بيلاروسيا، وهجرتهم منها في عام 1905م بسبب الاضطهاد، ثم انتقالهم إلى «يافا»، ويلاحظ أن اليهود كانوا يخططون منذ ذلك الوقت لتأسيس عاصمتهم السياسية على ضواحي يافا، فاختار الكثير منهم الهجرة لها استعدادا «لساعة الصفر»! غير أن المقام لم يطل بهم في يافا بسبب الحرب بين الدولة العثمانية وبريطانيا، فانحازوا إلى منطقة نفوذ بريطانيا، فهاجروا إلى الإسكندرية للبقاء في (الكنف) البريطاني في مصر!!

بل إن شخصية مشمش أفندي نفسها اقتبست من جملة قالها طلعت حرب عندما سأله ناحوم عن إمكان الاستثمار في هذا المجال لاحقًا، فقال له طلعت حرب، حسب ما يحكي هو: «بكرة في المشمش»..

وبسبب ولع ناحوم فرنكل، والد هرشل وسالومون ودافيد، وولع أبنائه بالتصوير والسينما، وبعد ظهور أول أفلام شخصية ميكي ماوس، والقط فيليكس وعرضها في مصر؛ تفتق ذهن (العائلة) لعمل فيلم مشابه لأفلام ديزني، وبالفعل تواصل ناحوم مع رجل الأعمال المصري محمد طلعت حرب، ولعل اختيارهم له نشأ عن رؤيتهم لحرب وهو يعمل (بقواعد اليهود والانجليز) بالرغم من وطنيته، فكانت مشروعاته قائمة على نفس الفكرة اليهودية وقواعدها، وبعيدة عن القواعد الشرعية الإسلامية في مدى حل أو حرمة هذا المشروع أو ذاك، فكان هو أولى الشخصيات لتمويل مشروع غرضه الاصطباغ بالصبغة المصرية الوطنية، وفي نفس الوقت لا يرى غضاضة في المحاذير «الشرعية» التي قد تتعلق بهذا المشروع، لكن طلعت حرب -ولسبب لا نعلمه للآن- رفض الفكرة!

فهل كان رفضه من باب استشراف ومعرفة أغراض هذه المشروعات؟ أم كان رفضه بسبب اقتصادي بحت؟

أُرجحُ أنه لم يكن بسبب اقتصادي، فبالرغم من أن طلعت حرب عانى أزمات اقتصادية كبيرة، وأزمة سيولة أحيانا؛ إلا أن المشروعات الترفيهية من أكثر المشروعات المدرة للأرباح السريعة، فضلا عن أن صيغة الرفض التي سربها ناحوم، وحنقته على طلعت حرب، ترجح أن السبب لم يكن اقتصاديا، لا سيما وأن حالة الأزمة التي وقع فيها طلعت حرب كانت مشهورة معلومة، ومن المستبعد أن يلجأ إليه ناحوم في ظل هذه الأزمة..

والذي يؤكد أن السبب لم يكن اقتصاديا ما أورده ناحوم وأولاده من اختيارهم اسم أول فيلم كارتون قاموا بصنعه وهو «مفيش فايدة» من أحد الجمل التي قالها طلعت حرب لناحوم في رده وإلحاحه على موافقة حرب على إنتاج هذه الأفلام، فقد كان رده على إلحاح ناحوم: «مفيش فايدة»!! بل إن شخصية مشمش أفندي نفسها اقتبست من جملة قالها طلعت حرب عندما سأله ناحوم عن إمكان الاستثمار في هذا المجال لاحقًا، فقال له طلعت حرب، حسب ما يحكي هو: «بكرة في المشمش»، فابتكر شخصية «مشمش أفندي»، وكأنه كان محاولة لرد الاعتبار على رفض طلعت حرب لهذا المشروع برمته.

وفي الحقيقة فإن اختيار اسم الشخصية واسم أحد الأفلام يؤكد الرمزية التي يوليها اليهود في أعمالهم، وأن لهم دائما «ثأر» لا ينسوه أبدا، ويتعمدون هذا الرد، وأن الربط الذي يحدث من البعض لما يختارونه من أسماء أو رموز ليس من باب «نظرية المؤامرة»، والحساسية الزائدة؛ وإنما هو ناتج منطقي وطبيعي لفهم طبيعة وثقافة القوم.

كان المشخصاتية (الفنانون) في هذه المرحلة لا يجهرون بأسمائهم الحقيقية، بل يختارون أسماء «من جلدتنا»، ويتصرفون تصرفاتنا، فجانيت جرجس فغالي المسيحية اللبنانية تصبح المغنية: «صباح»، وميشيل شلهوب اليهودي المصري يصبح الممثل: «عمر الشريف»..

لم تكن المرحلة التي ظهر فيها «مشمش أفندي» تحتمل الغزو الفكري من الخارج للداخل، بالرغم من الاحتلال العسكري والسياسي، بل كان الغزو لابد أن يخرج من الداخل إلى الخارج، فكانت الشخصيات التي يتم ابتكارها لابد أن تكون (مصرية) خالصة، وليست وافدة على المجتمع، وتقوم تلك الشخصية بتمثل القيم والعادات، ولا تخرج عليها، بل تكرسها، على الأقل في المراحل الأولى، تمهيدا لتسليم القلوب والعقول لها، وصنع طبقة من المؤيدين والجمهور المتعاطف المنافح عن أي مستشرف لمآلات الأمور بأنه (يبالغ)، وأن «نظرية المؤامرة» هي التي تحركه، ولهذا كان المشخصاتية (الفنانون) في هذه المرحلة لا يجهرون بأسمائهم الحقيقية، بل يختارون أسماء «من جلدتنا»، ويتصرفون تصرفاتنا، فجانيت جرجس فغالي المسيحية اللبنانية تصبح المغنية: «صباح»، وميشيل شلهوب اليهودي المصري يصبح الممثل: «عمر الشريف»، وموريس زكي مراد اليهودي المصري يصبح «منير مراد»، وراشيل إبراهام تصبح الممثلة «راقية إبراهيم»، وبعضهم يعلن إسلامه، والبعض يستمر على ذلك إلى وفاته كشلهوب ومراد، والبعض يذوب وينسى موضوع إسلامه بالكلية كجانيت! حتى إذا نَضَجَتْ (الميتة)، واستعذبها الآكل؛ أسفرت عن وجهها، وظهرت باسمها ورمزها، ولا تتحرج من ذلك، فهذه تسمى «إليسا»، وتلك تسمى «ماريا»، وهذا «طوني»، وهذا «جورج قرداحي/وسوف» وهكذا، دون أن يحتاجوا إلى «تغيير» الأسماء للبحث عن القبول عند المتلقي، بعد أن تأكدوا أنه أصبح «قابلا» لذلك!

وكالعادة.. تم تمرير هذا النوع من الأعمال الترفيهية، وتم عرض الفيلم الذي لا تتجاوز مدته ثمانية دقائق ونصف في 08/02/1936م في سينما كوزموجراف، واقتنع العقل الجمعي المصري في تلك الفترة بحسن نية «مشمش أفندي» وصانعيه، حتى إن وزارة الزراعة المصرية في تلك الفترة طلبت من عائلة فرنكل عمل فيلم تعليمي إرشادي لتعليم المزارعين طرق التخلص من طفيليات القطن التي شكلت تهديدا لزراعته في تلك الفترة (وكانت أيام …!!) ..

العجيب أنه لم تمض فترة طويلة حتى كشفت عائلة فرنكل عن غرض ابتكار شخصية مشمش أفندي، والهدف من هذه الأفلام الكارتونية، ففي عام 1939م وقبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ومع ظهور بوادرها؛ أنتجت عائلة فرنكل فيلم «الدفاع الوطني»، وظهرت فيه «تبرعوا للدفاع الوطني»، وكان الهدف من الفيلم حشد الرأي العام المصري للاستعداد لحرب تخوضها بريطانيا ضد المحور، ويشارك فيها الجيش المصري جنبا إلى جنب مع من يحتله، مع من يفترض أن يكون في مواجهته!! مستغلا في ذلك نجاح شخصية «مشمش أفندي»، وسافرا عن الأغراض الحقيقية لهذه الشخصيات «المبتكرة» التي يراد تسويقها محليا، وصنع مجد وشعبية لها، ليتم التوجيه بواسطتها ومن خلالها فيما بعد ..

وما أشبه الليلة بالبارحة، واليوم بالغد.. فالمصدر تتعدد وسائله، لكن أفكاره واحدة، وأهدافه متقاربة، وغباؤه بادٍ لكل صاحب مسحةٍ من عقل، لكنها الغشاوة التي قبلتْ تسويق وتلميع شخصية مشمش أفندي.. شخصية (المصري) الذي ابتكره (يهودي) لخدمة الاحتلال (الانجليزي)!!

المصدر: موقع جريدة الأمـة

التعليقات