إن المرحلة التي تعيشها الدنيا الآن هي مرحلة قدرية بامتياز. ومعنى كونها قدرية أي أن يد القدرة الإلهية ظاهرة و واضحة وجلية في تحريك الأحداث دون استتار خلف أفعال العباد. وسبب كون القدر فعال ونشط في هذه المرحلة أنها مرحلة تاريخية فاصلة في حياة الأمة، يهيئ الله فيها الأمة و يعدها إلى حدث كبير يفوق قدرة الناس وترتيبهم. والبعد القدري في ثورات الربيع العربية يعد بابا ً كبيرا ً يطول الحديث فيه, و يلاحظ أثره على مستوى الحراك العام و كذلك الأحداث الجزئية، وأتناول هنا لماذا كانت الثورات في هذه الدول بالذات؟ ولماذا جاءت بهذا الترتيب وعلى هذه الشاكلة؟ في محاولة لتلمس شيء من الحكمة الربانية التي لأجلها جرت الأقدار.
1) تونس أولاً .. لماذا؟
بالرغم من أن تونس تعتبر من العواصم الفكرية للمغرب الإسلامي، إلا أن أهميتها في المشهد الكلي ليس بتلك الدرجة، مقارنة بمصر كدولة مركزية، وقوة بشرية، و وفرة في الإمكانات، ومكانة ريادية في المنطقة. أو كمصر والشام من حيث البعد التاريخي، والمكان الجغرافي، والقرب من مركز الصراع (أكناف بيت المقدس).
و الحكمة من تقدير الله أن تكون تونس بداية تكمن في أن معطيات الواقع لا تنهض وحدها بإنجاح ثورات تنزع هذه الأنظمة الاستبدادية من أماكنها, بل إن الثورات العربية أثبتت قوة هذه الأنظمة في التصدي للثورات الشعبية، فكان حراك في منطقة ليست حساسة و لا مركزية .. لا يمانع فيها الغرب بحدوث تغيير، وليس عنده مشكلة في التضحية بحليف ( زين العابدين بن علي) أصبح ورقة محروقة.. فيسمح بانقلاب عسكري يحتوي به الثورة .. لكن أمرا كهذا لم يكن ليسمح به في دولة كمصر مثلا، حيث أنها دولة كبيرة، لها حدود مع فلسطين، توفر الحماية لدولة بني صهيون وتعقد معها اتفاقيات قديمة بالنسبة لغيرها، و يمسك بزمام الحكم فيها نظام قوي يعد من أهم حلفاء الغرب في المنطقة، وعامل أساسي في الحفاظ على مصالحهم فيها..
وحقيقة الأمر أن التغيير في الثورة التونسية هو انقلاب عسكري بضوء أخضر غربي أكثر منه ثورة.. و لا شك أيضا أن ما حدث كان في صالح الشعب التونسي، كما أنه قد استفادت منه الحركة الإسلامية هناك.. و لكن تأثيره الأكبر كان عابرا للحدود، عندما أعطت الثورة التونسية بارقة أمل وأشعلت جذوة الثورة وروح التحرر لدى الشعوب العربية.. فسرعان ما التقطت الإشارة مصر، وبدأت تلك المحاولات الساذجة لمحاكات أحداث تونس، حتى رأينا أكثر من بوعزيزي في مصر, وما هي إلا أيام حتى انطلقت بوادر الحراك في مصر.
الخلاصة أن الدور التونسي في المشهد الكلي للحدث كان بمثابة إشعال فتيل الثورة في المنطقة.
2) مصر و البعد القدري
لا يمكن تخيل تغيير حقيقي في العالم الإسلامي ولا تكون مصر أصيلة فيه .. ذلك لموقع هذه الدولة في قلب العالم الإسلامي, و قربها من مركز الصراع – و هو بيت المقدس-, ولدورها التاريخي والحضاري, كما أنها دولة كبيرة من حيث التعداد السكاني ووجود مقومات الدولة القوية .. لذا كانت الثورة المصرية..
لكن هذا الحراك الثوري في مصر اعتبر كارثة للغرب، وسبب حرجا بالغا لأمريكا التي كانت قد سارعت إلى مباركة ثورة شقيقتها التونسية، ثم تلجلجت وتلعثمت مع النسخة المصرية من هذه الثورة.. حيث لم يمكن لها التضحية بسهولة بحليفها الاستراتيجي مبارك, كما انها لا تضمن أثر عملية التغيير في مصر، وما يترتب عليه من خطورة محتملة على أمن ربيبتها إسرائيل, خاصة مع قوة الحركة الإسلامية في مصر.
في البداية حاولت أمريكا احتواء الموقف هذه المرة وإنقاذ حليفها الاستراتيجي في المنطقة.. و دعت نظام مبارك وقتها للقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية، مع دعم بقائه في السلطة. لكن كانت هذه المحاولات بدون جدوى.. و تخوفت أمريكا من انفلات الأمور و خروجها عن السيطرة, فخلع مبارك ونجحت الثورة جزئيا، وبشكل سريع – ثمانية عشر يوما- و سقط رأس النظام.. و جاء المجلس العسكري ليدير فترة انتقالية كان من المفترض أن يتسلم بعدها الشعب السلطة.
وهذا النجاح السريع المنقوص وراءه حكمة عظيمة، ومنها تتلمس البعد القدري وراء هذا الحدث.. حيث أن صمود النظام وصلابته أمام مطالب المعتصمين في الميادين كان قادرا على إجهاض هذا الحراك الثوري القريب النشأة, الضعيف البنيان (القصير النفس).. وليتحول ما ظنت الجاهلية العالمية أنه خطوة لاحتواء الثورة، إلى إنقاذ للثورة من فشل متحقق، ودافع لها للاستمرار بعد أن رأت أنها قادرة على تحقيق ما تريد. ولتتعاقب بعد ذلك موجات ثورية أشد نقاء و أكثر وعيا وقوة، لتستكمل المسيرة الثورية الكاملة. سواء أكانت في مرحلة المجلس العسكري, حيث استطاعت أن تنهي الفترة الانتقالية، وأن ترفع الوصاية العسكرية جزئيا برفض المبادئ فوق الدستورية، والإتيان بل فرض رئيس مدني منتخب على غير رضى العسكر. أو ما تواجهه الثورة اليوم من محاولة لإسقاط الانقلاب العسكري في [ 3/7 ].
الخلاصة: البعد القدري في النجاح السريع المنقوص للثورة، أنه كان بمثابة قبلة الحياة (التنفس الاصطناعي) .. ليؤدي ذلك فيما بعد إلى تعاقب موجات ثورية أشد نقاء وأكثر وعيا وقوة، حتى نصل إلى استكمال المسيرة الثورية الكاملة.
ملحوظة هامة : البعد القدري ظل واضحا في كل أحداث المشهد المصري، ويمكن إفراد مقال خاص به، لكثرة تفاصيله وسرعة حركته، مع ضخامة آثاره.
3) لماذا ليبيا؟!
ليبيا .. لا موقع استراتيجي .. و لا ثقل سكاني.. و لا بعد حضاري.. و لا مقومات دولة قوية .. و لا بنية تحتية.
حتى إنه كان يتندر بإيطاليا يوم أن احتلت ليبيا، بعد أن أخذت الدول العظمى (بريطانيا و فرنسا) أخذاتهم .. و لم يبق لإيطاليا إلا هذه الصحراء، وإقليم في الصومال، لتدخل بهما نادي الدول الاستعمارية. وهنا يأتي السؤال فلماذا ليبيا؟
دور ليبيا في المشهد يتمحور حول نقطتين:
الأولى: تشكيل منطقة توحش خارجة عن النظام الدولي. حيث ساعد مناخ ليبيا العام ذو البيئة الصحراوية, وهيمنة المجتمع القبلي على الحياة الاجتماعية والثقافية، مع ضعف الاهتمام العالمي بهذه المنطقة مقارنة بمصر وسوريا, كل ما سبق في ظل حكومة مركزية ضعيفة نشأت بعد الثورة وليس لها سيطرة حقيقية على الدولة. فساعد هذا كله على تشكل هذه الظاهرة.
وتكمن أهمية وجود منطقة توحش خارجة عن سيطرة النظام العالمي الذي يتحكم به الغرب في أن الثورات العربية في حقيقتها قامت ضد هذا النظام الدولي، وضد هيمنة الغرب ووكلائه في المنطقة. فلم ينس العالم تلك اللافتة الكبيرة التي رفعت في ميدان التحرير أيام الثورة “لن تحكمنا أمريكا بعد اليوم”.. لذا احتاجت الثورات العربية إلى ما يمكننا تسميته بالظهير الآمن الذي يوفر مساحة من حرية المناورة، خارجة عن أي سلطة للنظام الدولي.
الثانية: تشكل ما يمكن تسميته (بمستودع السلاح) للحركات المسلحة في المنطقة.. حيث ساهم جنون القذافي الذي أنفق المليارات على تسليح ميليشيات من مرتزقة، استقدمهم من إفريقيا وغيرها، للدفاع عن حكمه، بالدور الأكبر في هذه الظاهرة.
ليبرز تأثير هذا المناخ بوضوح في ما جرى لاحقا في شمال مالي، الذي يعتبر امتدادا مباشرا للثورة الليبية. فقد تفجرت تلك المتغيرات بسبب تدفق السلاح والمقاتلين من ليبيا بعد سقوط القذافي، واستثمار الحركات المسلحة لهذا الظرف، كحركة تحرير أزواد و جماعة أنصار الدين. ثم استطاعت الأخيرة السيطرة على شمال مالي إلى حين بعد طرد الجيش النظامي وتقلص نفوذ حركة تحرير أزواد.
وفي فلسطين كان التطور النوعي في سلاح حركات المقاومة كحماس وأخواتها، والذي ظهر جليا في التصدي للعدوان الصهيوني الأخير والفاشل على غزة في نوفمبر 2012, حيث أطلق عليه الصهاينة عامود السحاب وردت عليه المقاومة بعملية حجارة السجيل . وقد استطاعت المقاومة لأول مرة إصابة طائرات للعدو الصهيوني، وإيصال صواريخها إلى تل أبيب والقدس، مخترقة القبة الحديدية الصهيونية. و يعود هذا التطور النوعي في تسليح فصائل المقاومة الفلسطينية إلى كمية و نوعية السلاح المتدفق إلى قطاع غزة عبر الأنفاق التي تربط القطاع بمصر, و أغلب هذا السلاح كان قادما من ليبيا, و قد ساهم الوضع المصري خاصة في فترة حكم د محمد مرسي – فك الله أسره – بدور مهم في هذه الحالة.
4) سوريا إلى أين؟
سوريا لها أهمية كبيرة من حيث الموقع الجغرافي والدور التاريخي, لذا كان دخولها في معادلة التغيير والتحاقها بمشهد الثورة أمرا متوقعا و متوافقا مع البعد القدري للأحداث. فقد اقترن دور مصر والشام في محطات تاريخية كبيرة وعديدة, خاصة في صد العدوان على الأمة وتحرير مقدساتها. وكلنا يتذكر تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي وأثر الشام ومصر في هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ الإسلامي.
لكننا نجد أن الثورة السورية لم تأخذ الصورة ذاتها التي كانت عليها الثورة المصرية, و تحولت معادلة الصراع بين نظام بشار والثوار إلى صراع صفري, لم تجد فيه الثورة من بد إلا حمل السلاح للدفاع عن نفسها بعد المجازر التي ارتكبها بشار في حق الشعب السوري الحر.
و هنا يتجلى البعد القدري أيضا في استمرارية ونوعية الثورة السورية. حيث أن النظام البعثي كان قد استطاع أن يضعف الحركة الإسلامية في سوريا بشكل كبير. ولو سارت الأمور في سوريا كما سارت في مصر, لما كان بمقدور الحركة الإسلامية في سوريا باعتبارها تمثل المعارضة الحقيقية الضغط على النظام، وانتزاع حقوق الشعب منه عن طريق التفاوض. و كانت النتيجة أن يخرج الشعب بعد ثورته بلا أي مكاسب ألا ضياع ثورته. هذا إلى جانب طبيعة التركيبة الطائفية للنظام, والتي أدت إلى جعل الصراع صراعا صفريا.
ولما أن سوريا أرض الملاحم و الجهاد.. كان من نصيبها أن يطول فيها الحراك الثوري الجهادي تمهيدا لأحداث الملاحم الكبرى ( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ , ظَاهِرِينَ عَلَى مِنْ نَاوَأَهُمْ , حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ ). كل هذا أدى إلى أن تدفع سوريا (الفاتورة) الأكبر .. وأن تكون صورة (الثورة) فيها مسلحة.. أي أعلى صور الجهاد.. وساعد في ذلك وجود البعد الطائفي كما ذكرنا، والمناخ الإقليمي المناسب، الذي تمثل في الحدود المشتركة مع مناطق السنة في العراق، وتدفق السلاح والمقاتلين من هناك أوالحدود التركية، والدور التركي البارز بقيادة حكومة أردوغان المشابه إلى حد كبير للدور الذي لعبته باكستان أيام ضياء الحق في فترة الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي.
وإذا نظرنا بصورة عكسية .. فإن مصر لا يناسبها صورة الكفاح المسلح الآن، خاصة في غياب وجود صراع طائفي. كما أنه قد يكون بقاء إرث الدولة المصرية من جيش ومؤسسات دولة وبنية تحتية، واسترداد الأمة لهذا الإرث من أيدي مغتصبيه، له أهمية و أثر كبير، و دور واعد في مرحلة ما بعد التمكين الذي ستصل إليه الحركة الإسلامية في مصر بإذن الله و فضله.
التعليقات