بين منهجين …

ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه كان عنده أضعاف أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه، فقد كان يجالس النبي صلى الله عليه في بيته، ويتبادلان أطراف الحديث حول شؤون الدعوة والدولة، ويمتد بهم الحوار لساعات، لكن موجب التحديث عند الاثنين هو صانع الفرق في عدد الأحاديث لكل منهما، فأبي بكر لم يكن يحدث إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بوقوع حادثة معينة عنده فيها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم القول الفصل، أو وجود ظاهرة تحتاج إلى تقويم..

ومثال الأولى عند مطالبة السيدة فاطمة بميراثها في النبي صلى الله عليه وسلم، فروى حديث النبي صلى الله عليه وسلم (نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة)..

ومثال الثاني استشعاره بركون البعض إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفهم خاطيء لنص شرعي، فخطب في المسلمين: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه”، وهو الحديث الأول في مسند الإمام أحمد، فكأن أبا بكر كان يرى ارتباط التحديث بالعمل والوقائع ..

وعلى الجانب الأخر فإن أبا هريرة كان يرى – فيما يغلب على ظني – أن عمل التحديث والبلاغ في ذاته هو أرجى الأعمال التي يحتسبها، فهو يبث من العلم ما سمعه عن النبي صلى الله عليه أو عن بعض كبار الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء وقع ما يُحتاج إليه في هذا النص أو لا، فإن لم تكن الحاجة إليه واقعة لحظة التحديث؛ فلا شك في الاحتياج إليها لاحقًا، تاركا أمر فقه الحديث في أغلب ما روى لمن سمع وأتى بعده، وهو لا يضره رضي الله عنه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه لمن هو أفقه منه)..

ولا نقر أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يكن فقيها كما زعم البعض، ويؤكد ذلك اختياراته رضي الله عنه، حتى وإن كانت مرجوحة بمجموع الأدلة، نعم؛ من الصحابة من هو أفقه منه بلا شك، بل ربما يكون كعبهم في الفقه أعلى منه رضي الله عنه كابن عباس وابن مسعود ومن قبلهما أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع، لكن نفي الفقه عنه تجنٍ من قائله، ومجازفة غير مقبولة…


التعليقات