كيف يتصرف الضعيف بين الأقوياء؟ الاشتراك والافتراق بين السياستين الإماراتية والقطرية

المقدمة:

يمثل النمو البارز للسياستين الإماراتية والقطرية، في المنطقة العربية الإسلامية، حالة فريدة جديرة بالتأمل والدراسة، مع أنهما يعبران في توجهما سياسيين مختلفين، ومتنافسين، بل ومتصارعين في الواقع.

ضعف وثراء:

تشترك الدولتان في ضعف له أسباب الموضوعية، من نقص أعداد العنصر البشري، ومن صغر حدود المساحة الجغرافية، مما انعكس على ضعف قدراتهما العسكرية الذاتية، مع وجود ثراء اقتصادي عندهما في نفس الوقت.

إحاطة الأقوياء:

كما تشتركان في أنهما يحيط بهما أقوياء –ولو بالنسبة لهما-، فخليجياً إيران تمثل قوة إقليمية على الضفة الشرقية، والسعودية تمثل قوة إقليمية نسبية في الغرب.

وعربياً: تمثل دولة الصهاينة قوة غربية ضاربة في قلب المنطقة العربية، بينما يتجدد النفوذ الإيراني عبر العراق وصولاً إلى سوريا ولبنان في الشام، كما يتمدد في اليمن مهدداً جنوب الجزيرة ومضيق عدن المتحكم في البحر الأحمر، فضلاً عن التهديد الإيراني لدولة الضفة الغربية من الخليج بالطابور الشيعي ذي الولاء الإيراني والمنتشر على طول الساحل (في تهديد قد وضحت معالمه في البحرين ابتداءً، وهو لا يقتصر على البحرين).

أما عالمياً: فلا ذكر لدول الخليج العربية، إلا كمناطق نفوذ واستغلال من القوى الكبرى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً (خاصة بعد تدمير القوة العراقية، في حرب الخليج الثالثة).

وعي وإرادة:

لكن المشترك الأهم في -نظرنا- بين كل من الإمارات وقطر –والذي ميزهما عن غيرهما- هو الوعي السياسي العالي، مع الإرادة السياسية الطموحة، ولذلك انشغلنا بالبحث عن إجابة مناسبة، لذلكم السؤال المصيري: كيف سنتصرف بما يحافظ علينا، ويعزز قيمتنا ومكانتنا، ونحن ضعفاء محاطون بأقوياء طامعون؟

الافتراق:

وهنا حصل الافتراق، الذي يصل إلى حد التضاد، عندما اختارت كل منهما إجابة مختلفة، وطريقاً خاصاً، للتعامل مع الواقع، قد اشتركتا في فهمه بدقة عالية، وإلى درجة كبيرة.

حل “الوكالة”:

أما الحل الإماراتي، فيتلخص في أن تكون الوكيل عن القوة ذات النفوذ الأعلى في المنطقة، وقد تحددت هذه القوة عندهم في أمريكا عالمياً، والكيان الصهيوني إقليمياً، وهذه الوكالة السياسية لا تمنعهم من الاستفادة من النفوذ الصيني اقتصادياً (في حدود الحيز المسموح به أمريكياً).

فما دام العالم سينقسم إلى ظالم ومظلوم، وأنت أضعف من أن ترفع الظلم عن نفسك (فهناك مثلاً ثلاث جزر محتلة إيرانياً، ولا يمكن فتح ملفها)، فلتكن ذَنَباً للظالم، وشريكاً في ظلم المظلوم، أفضل من أن تكون مظلوماً (في الفلسفة السياسية الإماراتية).

أدوات الوكالة:

وقد استخدمت الإمارات لأداء هذا الدور نشاطاً سياسياً كبيراً، مدعوماً بإنفاق مالي كبير أيضاً، بحيث تتحرك السياسية والمال في أمريكا لتوثيق الصلة ولدعم مَن تلتقي مصلحتهم مع مشروع “الوكالة الإقليمية” (وقد تحقق هذا بالأساس في إدارة ترامب)، وفي إسرائيل، بجعل مصلحتها في نجاح مشروع الوكالة (من خلال مكتسبات صفقة القرن التي يسعون لتحقيقها).

نتائج الحل:

فكان من الطبيعي أن تصطف الإمارات مع هؤلاء الخصوم ضد هوية الأمة الإسلامية، فتعادي كل الحركات الإسلامية، بل وتتفق مع خصوم الأمة على أن “الإسلاميين” هم العدو الأخطر، الذي يلتفون ضده.

وكان من الطبيعي أن تقف ضد آمال الأمة في التحرر من الاستبداد (الذي هو حق للأمة)، فتدعم بقوة كل الثورات المضادة للربيع العربي، لتكريس الاستبداد الراعي لآمال الصهاينة في المنطقة، والتابع لمشاريع الوكيل الإماراتي، إذ أن تجربة الشعوب ذات الهوية الإسلامية، وصعود الإسلاميين إلى منصة الإدارة السياسية، مثّل تهديداً (في الواقع، وفي المآل) لمشروع إخضاع المنطقة للتبعية للعدو الصهيوأمريكي، من خلال الوكيل الإماراتي.

المحور الإماراتي:

وفي إطار السعي لإنجاح المشروع، وإعادة تشكيل المنطقة، تكوٌن -ولازال يحاول التمدد- محور تمثل الإمارات رأسه المدبر، والسعودية جسمه الخليجي، ومصر جسمه الأفريقي (والموجود على حدود الكيان الصهيوني)، وتمتد أذرعه في البحرين خليجيا، وفي قوات حفتر ليبيا، وفيمَن يحاول أن يكون بديلا للبشير سودانيا، وفي ميليشيات يمنية (تدعم القوات الإماراتية هناك).

كيفية بناء المحور الإماراتي:

وقد بنت الإمارات هذا المحور، من خلال دعم انقلاب ابن سلمان (التابع لابن زايد) على ابن نايف (الذي كان يعمل لمصلحته الشخصية، ويصعب احتواءه كتابع للسياسية الإماراتية)، ودعم انقلاب السيسي (التابع للإمارات والسعودية وللصهاينة وأمريكا) علي الرئيس السابق د.محمد مرسي (والذي كانت سياسته مضادة للسياسة الإماراتية في المنطقة)، ودعم انقلاب حفتر علي ثوار ليبيا عامة وعلي الإسلاميين منهم خاصة، ودعم الانقلاب العسكري في السودان، ضد البشير (الذي كان ينأى عن الدخول في المحور الإماراتي، وكان أقرب إلي المحور القطري، وإن كان يحاول الحفاظ علي نفسه بإدارة التوازنات، دون الدخول في مظلة الانحيازات) طمعا في أن تلحق السودان بمصر في المحور الإماراتي، ومن خلال الدخول مع السعودية في حرب اليمن لتحقيق هدفين كبيرين:

أولهما: تصفية قوة الإصلاح (إخوان اليمن) بالكسر والاغتيالات (ليتراجع دورهم في اليمن والمنطقة، لأقصي درجة ممكنة).

وثانيهما: زيادة النفوذ السياسي والاقتصادي، بالوجود المؤثر في مضيق عدن الاستراتيجي.

نقطة الضعف:

لكن المشروع الإماراتي على خطورته، وعلى سرعة تمدده، يتضمن نقطة ضعف قاتلة، تتمثل في أن تنفيذه الحقيقي علي الأرض لا يمكن أن يتم بالجسم الإماراتي الصغير والضعيف والمنزوي في جانب بعيد في خريطة المنطقة، بل تمثل فيه مصر مكانة مركزية، إذ بدونها يستحيل أن تنجح “صفقة القرن” (التي هي عماد المشروع الإماراتي)، والسعودية مازالت هي الثقل الأكبر في الخليج، وبدونها ينكمش الدور الإماراتي في كل الخليج ابتداءً (وفي غير الخليج بالتبع)، فأي تغيير يزيح السيسي وابن سلمان (غير المستقرين في الحكم حتي الآن)، سيعني خروج مصر والسعودية من هذا المحور (بما يدمر المحور)، وسيعني فشل “مشروع الوكالة” بانهيار صفقة القرن وما يتصل بها.

ولا يمكن في هذه الحال التعويل على الدور الصهيوأمريكي، والذي سيوفق أوضاعه، يما يحقق له المصالح الواقعية، مع المتغيرات السياسية في المنطقة، إذ أن للفشل دائما أب يتحمل تبعاته، بينما يتبرأ منه الجميع، طلبا للنجاح.

حل إدارة التوازنات:

أما الحل القطري، فيتلخص في أن تكون “مدير التوازنات” بين مختلف القوى في المنطقة وفي العالم حتى تبقى القوى الكبرى دائما في حاجة لوجودك ولدورك، أو على الأقل لا تستسهل المخاطرة بالتخلص منك.

فما دمت في دائرة نفوذ، مَن لا تستطيع –بالحسابات الواقعية أن تقاربه في معادلة القوة- فضلا عن أن تنافسه، فعليك أن تنقل العلاقة بينكما من “معادلة القوة المباشرة” إلى “معادلة التوازن في التأثير”.

وهذا التوازن قد يكون بينك وبين الطرف الأقوى (مثل توازن الرعب بين مجاهدي فلسطين والصهاينة فيها)، وهذا هو التوازن الأصعب، وقد يكون بين مختلف الأطراق القوية، من خلال إدارة الطرف الأضعف لذلك التوازن (مثل: دور قطر في التوازن بين إيران والسعودية في الخليج)، وهذا هو التوازن الأسهل، ومن خلال إدارة التوازنات –بنوعيها-، تحافظ على وجودك، وينمو تأثيرك، وتكتسب قيمتك، (في الفلسفة السياسية القطرية).

أدوات إدارة التوازنات:

ولتحقيق هذا الدور، وظفت السياسة القطرية قوتها الاقتصادية، في اتجاهين كبيرين:

أولهما: دعم القضايا التي تمثل إجماعاً لشعوب الأمة (كالقضية الفلسطينية، وثورات الربيع العربي، وغيرهما).

وثانيهما: إيجاد الإعلام الاحترافي الناجح، والذي يكون مميزاً عن غيره، في التعبير عن قضايا الأمة وآلامها وآمالها (من خلال قنوات الجزيرة)، والذي يسيطر على ساحة الإعلام المقبول شعبياً.

فأتاح ما سبق لها أمرين:

أولهما: مساحة تأثير هائلة على امتداد العالمين العربي والإسلامي، بما أعطاها قوة مضافة، يعتبرها العالم كله، فيؤثر على معادلة التوازن بينها وبين غيرها إقليمياً وعالمياً.

وثانيهما: أداء دور الوسيط بين القوى الإسلامية والثورية من جهة وبين مختلف القوى الإقليمية والدولية، باعتبارها وسيطا قادراً علي جمع الأطراف، وعلي التأثير عليها للوصول إلي أفضل الحلول، من خلال مجموع “السياسة، والاقتصاد، والإعلام”.

نتائج الحل القطري:

وأنتج ذلك المشروع، اصطفافاً قطرياً مع هوية الأمة الإسلامية وحقوقها في الحرية، في حدود الهامش الذي تسمح به التوازنات، دون خرق لحدود النفوذ الأمريكي القوي في المنطقة، وهذا يُفسّر تلك المسافة التي بين الموقفين الإعلامي والسياسي، والتي تتفاوت قرباً وبعداً بتفاوت اعتبارات التوازن في كل لحظة، فالإعلام يغطي الاحتلال الأمريكي للعراق، ومقاومته –مثلاً-، أما قرار وجود القاعدة الأمريكية في قطر، فهو قرار سياسي لحماية الدولة الصغيرة من جيرانها الأقوياء الطامعين فيها (أي: السعودية وإيران).

كما أنتج هذا المشروع –بطبيعة الحال- دعماً لثورات الربيع العربي، ولِما أثمرته من حكومات راغبة في زيادة مساحة الحرية والاستقلال دون دخول في صدامات غير محسوبة مع القوى الإقليمية والعالمية، باعتبار ما تضيفه تلك الحالة من تمدد في النفوذ القطري من جهة، وباعتبار ما تضيفه من تغيير في معادلة التوازنات في المنطقة، والتي تتيح هوامش أوسع للحركة، من خلال تقليل الضغوط الخارجية الصهيوأمريكية.

المحور القطري:

أما أهم ما يساعد قطر، في تشكيل محور للحركة من خلال التوازنات، فهو السياسة التركية في طورها الأردوغاني، والذي يتلاقى مشروعها مع المشروع القطري، ولكن مع إمكانات الدولة التركية القوية (والتي تحمل مقومات الدولة المركزية إقليمياً وإسلامياً)، لهذا حاولت قطر -بالتعاون مع تركيا- أن تبني محوراً يشمل حكومات الربيع العربي في مصر وتونس، وتمتد أفرعه في باقي الثورات التحررية، من سوريا إلى ليبيا، وإلى اليمن، بالإضافة إلى الرصيد السابق في فلسطين، ومع إمكان ضم آخرين كانوا قريبين (كالسودان في حكم البشير).

ومع انهيار المحور القطري عربياً، بانتكاس ثورات الربيع العربي، وبنجاح الثورات المضادة في مصر وتونس ابتداءً، وبتمدد حركة الثورات المضادة في ليبيا واليمن وسوريا، لم يبق لقطر -تقريبا- إلا الحليف التركي، وقد استفادت قطر من ذلك التحالف في اتجاهين:

الأول: حماية المظلة السياسية التركية للسياسة القطرية.

الثاني: الدعم العسكري التركي، والذي حمى قطر من محاولة الانقلاب التي كان يخطط لها المحور الاماراتي (بعد حصار قطر)، ليكون ذريعة لتدخل دول الحصار عسكريا في قطر دعماً للانقلاب المخطط له، (ولا يخفى أن فشل انقلاب تركيا، والذي يُتهم المحور الإماراتي بدعمه إقليمياً، وأمريكا المتحالفة معه بدعمه دولياً، أتاح دعماً تركيا مميزاً، كان له أثره البالغ في فشل خطة الانقلاب في قطر).

إدارة التعامل مع “المرحلة الحرجة”:

في اللحظة الحالية، لا شك أن المشروع القطري يمر بمرحلة حرجة، في ظل تغول المشروع الإماراتي، والذي يحاول أن يزيل المنافس القطري من طريقه بكل طريقة، ليستبد بإدارة المنطقة بالوكالة عن المشروع الصهيوأمريكي.

لكن قطر تتبع سياسة “التراجع البطيء، والمناورة الواسعة، وكسب الوقت”، فبالتراجع البطيء تتجنب أمرين:

أولهما: الكسر الواقعي بدخولها فيما لا تحتمل من صدام، أو بانهيارها استسلاما لضغوط الخصوم.

وثانيهما: الكسر المبدأي بالانقلاب المفاجىء على خطوط السياسة القطرية، وبالمناورة تستثمر بقايا الربيع العربي التي لم تندثر في المنطقة، وتستثمر التحالف التركي، وتستثمر حالة تعدد مراكز القوى عالمياً وإقليمياً (كما تستفيد من إيران خليجياً في مواجهة حصار المحور الإماراتي مثلاً)، بل وتستثمر علاقاتها بباقي الدول التي لم تدخل في المحور الإماراتي (مثل: الكويت خليجياً)، فتدعم هذه المناورات معادلات التوازن المفيدة للسياسة القطرية، والتي تقلل خسائرها في ظل التراجع الذي تضطر إليه.

أما كسب الوقت، فهو ربح كل ضعيف مهدد من خصوم أقوياء، إذ به يحافظ على حياته لأطول فترة ممكنة، ويحافظ على ما يمكن من قوته لأي فرصة قادمة، وفي ذلك الوقت يحاول تغيير معادلات الواقع لإيجاد مخرج من أزمته، فإن لم يقدر على تغييرها، فإنه يتابع تغيراتها التي تحصل بأسباب متنوعة، ليجد في تلك التغيرات ثغرة في جُدُر الحصار، تتيح له فرصة جديدة، للعودة لِما يرجوه من دور وسعي للنجاح مرة أخرى، فالأيام دُول.

نحو مستقبل مختلف:

إن عالم اليوم يتغير بسرعة، ولا يتسم بالجمود المستقر، ولا بالاستبداد المنفرد، بما يعني أننا أمام فرص حقيقية، قبل رسم خريطة جديدة للعالم، لكن هذه الفرص تحتاج إلى وعي بمعادلات القوة وتوازناتها، ووعي باحتمالات التغير الواقعي وبنسبها، وسعي لامتلاك أسباب استثمارها، ومغامرة محسوبة في مكانها وزمانها ودرجتها، فليس كل ضعيف سيبقى ضعيفاً أبد الدهر، ونحن على موعد مع مستقبل مختلف.

جوهر الافتراق بين المشروعين:

إن جوهر الافتراق بين المشروعين الإماراتي والقطري، يتلخص في أن المشروع الإماراتي قد قصر نظر أصحابه، فانبنى على حسابات آنية، تتجاوز هوية الأمة الراسخة وخط حركتها المتنامي تعبيراً عن هذه الهوية، بل تتناقض معهما، في ظل استسلام لأطواق من قيود الواقع، بل في تماهٍ معها، وإطراح لآفاق المستقبل واحتمالاته.

بينما حرص المشروع القطري على الارتباط بهوية الأمة، وبخط حركة الأمة (المتنامي للتعبير عن هذه الهوية وللسعي نحو الكرامة والحرية)، فانحازت إلى جمهور الأمة الأعظم، بناء على رؤية استراتيجية تستشرف المستقبل، وتسعى لحلحلة أغلال الواقع.

فالوعي الذي يجعل الإنسان أسيراً للنظر في موضع قدميه، بما يختزل الماضي والمستقبل في قيود لحظة حاضرة، هو وعي خطير وسلبي في آثاره.

بينما يوجد وعي آخر ينتفع بالماضي ويدرك الحاضر ويستشرف المستقبل، وعي بأركان الوجود الأصيلة المتمثلة في هوية الأمة وأشواقها، وهو وعي إيجابي ومثمر، وهو داعٍ لمستقبل مستقر، بقدر استقرار ما ينبغي عليه من عمق في الوجود الإنساني الأصيل.


التعليقات