ربنا لا يغيب

هكذا عرفه الأنبياء:

أبو الأنبياء إبراهيم –عليه السلام- عرف رب العالمين –سبحانه وتعالى- بحضوره الدائم، والذي تظهر آثاره في الكون خلقا وتدبيرا شاملين لكل حركة وسكنة فيه، في إحاطة كاملة بخلقه أجمعين.

ولذلك حين أراد أن يُعرِّف الناس بربهم الحق، ويصرفهم عن المعبودات الباطلة التي تعلقت قلوبهم بها، استدل عليهم بأن كل كبير في العالم العلوي مهما علا فإنه يغيب؛ فقال مبطلا عبوديته: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76]، إذ لا يستحق مع غيابه محبة العبد للإله.

أما الله الرب الحق، فإنه حاضر لا يغيب، يشمل عبده بالرعاية، ويتولاه باللطف في كل حال يكون عليها العبد؛ ولذلك كان جديرا بأن يحبه عباده أعظم محبة {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وهو –سبحانه- {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].

وهكذا عرفه المؤمنون:

إذ أن المؤمنون هم {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] فهم يرون الحق الذي قام في الخلق إتقانا وإحكاما، فيعلمون أنه لا يكون هكذا إلا من رب قدير حكيم –سبحانه-، فلابد أن يكون له في خلقه غاية وحكمة، تؤول إلي كمال العدل في الآخرة.

ولا يصدر عنه إلا ما هو مقتضى الحكمة، وكل ما فينا وما في الكون حولنا إنما يصدر عنه –سبحانه وتعالي-، على ذلكم الوجه {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] منفردا بكل خلق وبكل أمر {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] فلا يخرج شيء من العالمين عن ربوبيته –عز وجل-، لا شريك له في ملكه، ولا متصرف فيه سواه.

وهكذا عرفه الغافلون:

فإذا تقطعت بهم السبل، ولم يجدوا أرضا ثابتة تستقر عليها أقدامهم، ولا سببا للنجاة في مرمى أبصارهم، بل وفقدوا الطمع في كل مخلوق كائنا ما كان.. عندها، وعندما يغيب الجميع، يذكرون ربهم الذي لا يغيب، فيدعونه مخلصين {لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22].

لذلك عرفنا الله –عز وجل- بنفسه، أنه الذي {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ} [النمل:62]، فهذا المضطر الذي غاب عنه الجميع، لم يجد إلا واحدا لا يغيب، هو معه، يسمع دعواه، ويحيط بشكواه، ويجيبه برحمته الواسعة، وكرمه العظيم –تبارك وتعالى-، فهو ربه الذي لا رب له سواه، فمَن له غيره؟!

فهل عرفنا الله؟

هل عرفنا أن الله ربنا معنا دائما وأبدا؟

عرفنا -سبحانه- قبل أن نعرفه، وأحسن رعايتنا قبل أن يشعر إنسان بوجودنا، وغمرنا بفضله قبل أن تنطق ألسنتنا بالطلب منه، وتابعنا بإنعامه مع تقصيرنا في شكره.

أحاط علماً بعبده يونس –عليه السلام- وهو في بطن الحوت في جوف البحر، وكذلك أحاط علماً بجميع خلقه، ورعاه في ظلمات لم يعش فيها إنسان قبله، ثم سمع نداءه في الظلمات {أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فنجاه بعد أن يئس الخلق من نجاته، وقال –عز وجل-: {وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88].

فالحمد -كل الحمد- لله، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والحمد لله ربنا الذي لا يغيب.


التعليقات