الاستبداد دين المستبد!

الاستبداد دين المستبد! نعم هو دينه وأيدولوجيته التي تستمد أفعاله واختياراته في السياسة والحرب من جوهر هذا الدين وأصوله، ولهذا لا تعجب إذا رأيت أن المستبد ينافح عن الاستبداد، ويكافح في الدفاع عنه، سواء كان هذا الاستبداد يخدمه بشكل مباشر أو لا يخدمه، قال تعالى (ودوا لو تدهن فيدهنون)[القلم:9]، قال: الـمُبَرَّد: “داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر”، قال الرازي: “والمعنى: تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض ما لا ترضى فتلين لهم ويلينون لك”، وقال تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء)[النساء: 89]، أي تتركوا ما أنتم عليه من الحق، فتستوون في الباطل.

وهو ما يعني أن المستبد يحاول حماية نفسه بنشر خصال الاستبداد في العالم، ووَأْد المثال الشعبي، والنموذج الـمُلْهِم، وبث روح اليأس في إجراء تغيير، وقبول حياة الخنوع للاستبداد..

ومع ذلك فإن المستبد يرى مصلحة راجحة له في تغييب العدالة عن العالم، لا سيما عالَمَه القريب، وذلك أن العدالة كالعدوى تسري من جماعة إلى جماعة، والجماعات بطبيعتها يشبه سلوكها سلوك الإنسان الفرد من حيث الأصل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض؛ ولهذا كان المبتدئ بالخير وبالشر له من الأجر والوزر مثل من تبعه، كما في الحديث الصحيح : ” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة” رواه مسلم»، وقوله «كأسراب القطا» أي: كأسراب الطَّيْر، وهو مُشاهَد فيمن لا خَلاق له من أصحاب تربية الحمام، فمن المعروف أنه إذا أراد سرقة حمام غيره فإنه يطلق حمامه ليلتحموا في طيرانهم بالحمام المستهدف سرقته، ويدورون عدة دورات، فإذا رجعت إلى ما يعرف عند المصريين بغِيَّة الحمام [وأحسب أن أصلها: غيَّايَّة: لأن من معانيها: ما أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة، وهذه (الغيَّايَّات) تصنع فوق أسطح البيوت، وفي مكان مرتفع تشبه السحابة فوق تلك البيوت] رجع معها الحمام الغريب، فهم يتبعونهم ويقلدونهم في طيرانهم، وينزلون معهم في منزلهم.

وهو ما يعني أن المستبد يحاول حماية نفسه بنشر خصال الاستبداد في العالم، ووَأْد المثال الشعبي، والنموذج الـمُلْهِم، وبث روح اليأس في إجراء تغيير، وقبول حياة الخنوع للاستبداد، وأُلْفة الظلم، وتطبيع نمط الحياة التي يسود فيها المستبد، ويخضع له فيها آحاد الناس.

فإذا ظَهَرَ لمستبدٍ مستبدٌ آخر في نِزاع مع أصحاب قضية أو طلب عادل، ولو كان فيه من فيه من الشطط؛ فإنه ينحاز مباشرة إلى المستبد، ويؤيده ويسانده بالمال والسلاح وكافة أنواع الدعم، مهما كان دين أو أيدلوجية أصحاب القضية، كيف لا وهما يدينان بنفس الدين، وهو الاستبداد وإخضاع الشعوب، نعم؛ قد يتم عقد صفقات واتفاقات سرية مقابل الدعم، لكني أؤكد أن هذه الاتفاقات ليست مؤثرة في الانحياز والاختيار، لكن المستبد يحاول الاستفادة من انحيازه للمستبد الوليد أو الجديد، بطبيعته الانتهازية التي دأب عليها، وقد فهمت الشعوب في أدبياتها الشعبية هذه الحقيقة؛ إلا أنه النسيان، آفة الشعوب، وسَكْرة الإعلام، فيقول المصريون: «البيض الفاسد يدحرج على بعضه»، وهو معنى المثل الشعبي عند الحجازيين: «البيض الفاسد يدردب على بعضه»، أي: يتجمع وينحاز.

فكما أن هناك متدينون كَذَبة يدينون بالهوى بالرغم من انتسابهم إلى شرعة، فكذلك هناك أيدلوجيون كَذَبة، هم في حقيقتهم لا يدينون إلا للاستبداد دينًا ومنهجًا، وإن أظهروا الانتماء أو الانتساب لبعض الأفكار.

ولا شك أن من نعنيه هنا هو (المستبد المطلق)، وإلا فقد يكون الأيدلوجي مستبدٌّ، فأيدلوجيته هي الموجهة لسياساته من حيث الأصل، بالرغم من عدم انفكاكه عن الاستبداد، فهو أشبه بالمشركين الذين يعبدون عددًا من الآلهة مجتمعة، فأينما يكون ولاؤه لبعض تلك الآلهة مُقَدَّمًا تكون هي الـمُوَجِّه الرئيسي لسياسته، وقد يتذبذب ويضطرب في اختياراته، فيقدم هذا مرة وهذا مرة، فلا تقف له على قاعدة واحدة أو أصل صحيح، كعادة أهل الأهواء (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا)[النساء: 82]، ومن أشهر أمثلة المستبد الأيدلوجي معمر القذافي، بالرغم من أيدلوجيته السطحية؛ إلا أنه كان يعتقد أهميتها، فيناصر ويوالي عليها، أما عبد الناصر فلا أراه قد كان صاحب أيدلوجية، بل هو من صنف المستبد المطلق الباحث عن غطاء أيدلوجي لاستبداده، كما أوضحنا في (الغطاء الأيدلوجي للاستبداد)، فانتحاله للمنهج الذي أطلقوا عليه الاشتراكية تحسينا وإنفاقًا له عند الشعوب ما هو إلا وسيلة لتركيعهم، والسيطرة عليهم، ولهذا دمجوا بين الأفكار الشيوعية والآليات التنفيذية، وقليل من بُهارات العروبة، وأطلق عليه عرَّابه محمد حسنين هيكل بعد نفوقه: الناصرية، ليكون كاهنها الأول، ومُنَظِّرها، بعد أن شطط نزار قباني وقال في تأبين عبد الناصر: «قتلوك يا آخر الأنبياء»!! فأراد هيكل أن يكون صاحب شِرْعة النبي المزعوم المقتول.

فكما أن هناك متدينون كَذَبة يدينون بالهوى بالرغم من انتسابهم إلى شرعة، فكذلك هناك أيدلوجيون كَذَبة، هم في حقيقتهم لا يدينون إلا للاستبداد دينًا ومنهجًا، وإن أظهروا الانتماء أو الانتساب لبعض الأفكار.

إن الاستبداد يظهر مع المستبد في أول أمره كآلة أو وسيلة لإشباع الرغبات والغايات، ثم يتطور من خادم إلى مخدوم ومتبوع، ولهذا يقول ربنا تبارك وتعالى مُستنقِذًا لمن ابتُلِيَ به: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)[النساء: 125]، وحذَّرَ من متابعته: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا)[الكهف: 28]، لكنه ينتهي من مخدوم ومتبوع إلى (إله)، تقدم له القرابين، وتُصَنَّف له الشرائع والقوانين: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟! أفلا تذكرون؟!) [الجاثية: 23].


التعليقات