ما من إنسان إلا ولابد أن يستشعر مرارة الحياة، وكذلك سعادتها، فقد اقتضت حكمته تبارك وتعالى بحتمية أن يتقلب الإنسان بين التعب والكد في الحياة (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، وبين عدم الانفكاك عن الاستمتاع بملذات الحياة وبهجتها، حتى الكفار: (فاستمتعوا بخلاقهم، فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم)، وقال (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا)، لكنه تبارك وتعالى يُقْرِن المتعة اللادينية بالنقص الكيفي أو الكمي، قال تعالى (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين)، وقال في عموم المجرمين (كلوا وتمتعوا قليلا)، وفي المقابل فإن متعة الآخرة توصف بلفظ مغاير، هو (النعيم)، فالنعيم للمؤمن، يقابل المتعة الدنيوية، سواء كانت للمؤمن أو للكافر، والنقص في المتعة يقابل في النعيم بالديمومة والأبدية: (وجنات لهم فيها نعيم مقيم)، وقال (لهم جنات النعيم خالدين فيها).
ولعل من الفروق بين (التمتع) و(النعيم) أن النعيم صفة ذاتية لصيقة لما يجده العبد في الجنة، حتى أنه أصبح عَلَما عليه، أما التمتع فهو صفة لمن يباشر ما يجده العبد في الدنيا، وفيه إشارة إلى أن المتعة قد لا تكون حقيقية، وتكون في حقيقتها متعة متوهمة للعبد، كما قال تعالى عن سحرة فرعون (فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى)، فمصادرنا المعرفية في الدنيا يعتورها النقص والقصور، حتى ما يتعلق بالمحسوسات: (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء)، فإذا انتقل العبد إلى دار الحق اكتملت تلك المصادر المعرفية: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).
ولعل حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يذوق الجميع من ضنك الحياة، وأن يذوق أيضا من متعتها، لتهفو القلوب دائما للنعيم الكامل، فإن من لم يذق من متع الحياة ولو لحظة سكون وهدوء كيف له أن يطلب ما لا يعلم، أو يهفو قلبه إلى ما لم يشعر، ومن استشعر السعادة أو المتعة الكاملة في الدنيا كيف له أن يتطلع للجنة، وهو لم ير إلا المتعة الكاملة في الدنيا، ومَنْ ذاق عرف، ولهذا قال تعالى (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنِّعَم أخرى، كما هو مأثور في تفسيرها، فلا انفكاك لجموع المكلفين – مؤمنهم وكافرهم – عن هذا الابتلاء في الدنيا.
وإذا كانت “الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر” فإنه من المفهوم أن يبحث الكافر عن السعادة الكاملة في الدنيا، وهو حتما لن يصل إليها، ولن ينالها؛ لكن من غير المنطقي أو المفهوم أن يروم المؤمن الحصول على هذه السعادة في الدنيا، فلا شك أن السجين قد يستشعر في لحظة أو لحظات بالمتعة، لكنه ما زال مسجونا، فكلما حلت عليه لحظة من الراحة أو المتعة؛ انقلب الأمر لديه لنوع من النكد والتعب، على الأقل لوجوده سجينا…فطب خاطرا أخي وحبيبي المؤمن إذا ابتُليت بما ينغص عليك دنياك، فإن الله تبارك وتعالى قد أعد لك “ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، قال تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، جزاءً بما كانوا يعملون)، فسعادة الآخرة تتصف بالكمال الكيفي: ما لا عين رأت، والكمال الكمي: الأبدية والديمومة، فكيف يحزن من سيفوز بالكمال إذا فاته بعض ما لا ينفك عن النقص؟!!
التعليقات