تعودنا أن يقوم أنصار التغريب بمهاجمة اللغة العربية وقواعدها، وقد يتسترون برداء محاولة الحفاظ على العربية (الأصيلة) من أمثال من قال “تحيا العربية ويسقط سيبويه”، أو “اللغة العربية كائن حي” ونحو ذلك… لكن المفاجأة أن نجد هجوما ناعما حريريا من أمثال عارف حجاوي في مقاله “خزانة مليئة بالجثث”… وأعترف أنني ممن يستمتع بإلقائه وبرامجه في الجزيرة، وبرامجه القديمة في البي بي سي، فأنا من مستمعيه القدامى، لكن حبي للعربية النابع من إيماني بل ومعاينتي لجمالها، ونشوتي بجملها، واطلاعي على بعض اللغات والآداب التي لا تقارب العربية في جمالها وقوتها.. كل هذا جعلني أحزن من هذا الهجوم على علم الصرف والعروض، وعلى شخصيات كالخليل وسيبويه، حتى وإن تغلف ببعض الاحترام…
القول أن تقعيد العربية بفنونها عمل مبتدع هادم لها قول لا أساس له، إذ أن من وضع القاعدة لا يخترعها في الحقيقة، وإنما يخرجها للعيان من حيز الاتفاق الجمعي.
وفي الحقيقة فإن مبنى الفكرة التي يطرحها الأستاذ منقوضة من أساسها، إذ إنها تعتمد على انتقاد تقعيد بعض العلوم أو فنون العربية، وهذا التقعيد في حقيقته ليس تقعيدا مغيرا لواقع العلم نفسه، فهو يعتمد على ملاحظة الظواهر في ذاتها، ومراقبة مدى اطرادها في قوانين مستقرة في نفوس وملكات العربي، من غير أن يقوم بالتعبير عنها بلفظ القاعدة، فالعربي لا يلحن بسليقته، ويصحح لغيره اللحن كما صحح أبو الأسود الدؤلي لابنته عندما قالت: ما أجملُ السماء، فقال أي بنية لعلكِ تعنين: ما أجملُ السماء نجومَها، فقالت: يا أبت إنما أردتُ التعجب من جمال السماء، فقال: أي بنية: افتحي فاك، ما أجملَ السماء، إذًا فالقاعادة موجودة ومطردة، ويتم الاستناد إليها للتصحيح، وليس الأمر مُنْبَنٍ على عشوائية، لكنهم لم يكونوا يسمونها بالفتحة والضمة والكسرة ونحو ذلك، فالقول أن تقعيد العربية بفنونها عمل مبتدع هادم لها قول لا أساس له، إذ أن من وضع القاعدة لا يخترعها في الحقيقة، وإنما يخرجها للعيان من حيز الاتفاق الجمعي.
وليست العربية وحدها هي الفن الوحيد الذي تقعدت وتأصلت ضوابطه في صور مطردة، فمن المتفق عليه أن علم أصول الفقه مثلا كان من العلوم المعروفة عند الفقهاء قبل الشافعي في رسالته، لكن للشافعي رحمه الله فضل وضع هذه القواعد ومناقشتها في مصنف مستقل فتح الباب للنقاش والتدارس حول هذه القواعد، ومثله علم الحديث قبل الخطيب البغدادي أو ابن الصلاح، وغيرها من العلوم ….
وما يمكن أن نتفق عليه مع اللائم وقد ذكرته منذ زمن طويل أن طريقة التقعيد تعتبر مرحلة يجب أن يتجاوزها المجتهد في الفن، فكل أحد يجيد تطبيق القاعدة على الفرع المندرج تحتها، لكن المجتهد في الفن هو من يستطيع لملكة وأمارات علمية أن يستثني فروعا من أصولها، ويلحقها بالأشبه بها … وهذا لا يكر على طريقة التقعيد بالإبطال، لكنه يوضح أنه بعد مرحلة (المقتصد) التي يصل لنهايتها من يجيد معرفة القواعد وتطبيقها على فروعها لابد أن ينتقل إلى مرحلة (المجتهد)، وإن توقف عن مرحلة المقتصد فلا بأس، لكن لا يحق له الطعن على المجتهدين وأصحاب الرؤى بدعوى مخالفة القواعد….
إننا ما زلنا لم نفتح صناديق ملأى بالكنوز والدرر تحتاج لنفض الغبار عنها، وتطويرها في اتجاه مقاصدها والزيادة عليها، ومعالجة النوازل… عندها فقط من الممكن أن نقول أننا أمام… البداية!
التعليقات