[ 1 ] اللهم يسر لنا من كل ضيق وهم وكرب فرجا قريبا ومخرجا، وارزقنا صدق اللجوء إليك ودوام الافتقار لعظمتك وكمال التوكل عليك وراحة التفويض إلى حكمتك .
إننا نعلم يقينا أن الخير والشر الداخلي والخارجي الذي يقدر لنا إنما هو بسبب كسبنا، ولذلك فسبيل معالجة المشاكل يبدأ دائما بالرجوع على التفس باللوم وإلى الله بالتوبة، وما بعد ذلك من وسائل الإصلاح إنما هو تبع له .
[ 2 ] إن سعينا لإصلاح أنفسنا حتمي بالنسبة لنا، فليس كل قلب يغرس الإيمان في أصله، ولا كل نفس تدخل الجنة، ولا كل عين تقر برؤية ربها، وليس كل إنسانوإن تعددت مواهبه مؤهلا لأن يجعله الله في زمرة المؤمنين المتحابين في الله المستشعرين لمعيته – تعالى – ولطيف رعايته .
إذ أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، لكنه – تعالى – يضعه حيث يليق بعلمه وحكمته. وإن الذي لا يصدق في إصلاح نفسه وتغييرها ويصبر على ذلك، لا ينتظر من الله أن يرفعه إلى مرتبة مصلحي الأمم وهداة البشر .
وليس ثمة حد فاصل نقول إن ما قبله لا يصلح وما بعده يصلح لهذه المنزلة، لكنها الذكرى والتسديد والمقاربة، وإن الله إذا رأى صدق المحاولة .. أعان وتقبل .
[ 3 ] إن الكمال لا يدرك، والنقص لا يسكت عنه، لكنها الحركة الواعية نحو الكمال، والتي تدرك وجود النقص الحتمي، وبالتالي تتعامل معه عبر اتجاهين :
الأول : عدم رضاها عنه، بل سعيها الدائم في تجاوزه، وهي في ذلك تترقى بلا شك. والمحاولة الناجحة تضاف إلى الرصيد المعين على مواصلة السير، وتدفعها إلى مزيد من الانتصارات .. وبغير هذا لا تسير في الطريق .
الثاني : عدم وقوفها مع الهزيمة، وعدم التحطم على صخرة المشكلة، وعدم تضخيمها أو اعتبارها النهاية التي لا مفر منها ، والتي تلغي كل ما عداها. وهي في ذلك تتلافى بلا شك كثيرا من آثار النقص السلبية، وتمنع المحاولة الفاشلة من أن تضاف إلى رصيد الهدم الصاد عن سبيل الله .. وبغير هذا أيضا لا تسير في الطريق .
والتوازن بينهما علامة النجاح، والميل إلى أحدهما مرهق للنفس، معوق عن السير .
[ 4 ] وأخلاق أهل الكرم والشرف تدفع إلى تغليب جانب (عدم الرضى عن الخلل) عند التعامل مع النفس، وذلك لعلو الهمة وقوة العزيمة .
كما تدفعهم المروءة إلى تغليب جانب (عدم التحطم بسبب الزلل) عند التعامل مع الآخرين، من أبواب العدل وإحسان الظن والذلة للمؤمنين والتجاوز عن الزلات .
[ 5 ] إن العاطفة الغالبة التي تؤدي إلى مثالية حالمة ابتداء، ثم إلى نفرة ويأس وغضب يحطم ما في طريقه من بقايا الخير الموجودة لا محالة انتهاء .. ليست مما يحمد .
وفي المقابل، فالعقلية الغالبة التي لا تفكر إلا بالمقدمات والنتائج وفق آلية حسابية تهدر قيمة الفضل أو الصفح، وتؤدي في النهاية إلى عنت وجمود، وتقيم الحواجز، وتبقي الخيال والانعزال .. ليست مما يحمد .
أين الأول من الاتزان بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض (اعدلوا هو أقرب للتقوى) (وأقيموا الوزن بالقسط) مع ملاحظة (ولا يجرمنكم شنآن قوم) ؟.. وأين هو من الإيغال برفق، ومن التسديد والمقاربة ؟.. وقديما قيل : أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما .. وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما .
وأين الثاني من (ولاتنسوا الفضل بينكم) (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم) ؟.. وأين التجاوز لعل الله أن يتجاوز عنا، والإحسان لعل الله يحسن إلينا، والستر لعل الله أن يسترنا وإياه في الدنيا والآخرة ؟.. وقديما قيل : كما تدين تدان .
[ 6 ] إنني واثق كل الثقة من أن ركعات في جوف الليل، تسقط عبرات على الأرض، وترفع دعوات إلى السماء، كفيلة بحل أكثر مشاكلنا، خاصة إذا ما أمدت بظمأ الهواجر قبلها، وأزالت توبة صادقة واستغفار حار بقية موانع وضعها شيطان مريد، بمعاونة هوى لم يوثق إساره، في لحظة غفلة من واعظ في القلب لم نوقظه منذ زمن طويل لظننا الاستغناء عنه ..
غفر الله لنا، وأعاد لنا صدق البدايات، ورزقنا حسن النهايات .. آمين .
[ 7 ] إن الطاقة التي تستنفر تجاه مشكلة ما، إن لم تتجه إلى الحل الصحيح عبر الطريق المستقيم، سوف تتبدد في صحارى مهلكة، حيث لا زرع ولا ماء، وإنما حر يشعل الظاهر ولا وقاية، وظمأ يمزق الجوف ولا ري، ونداء لا سامع له ولا مجيب .
ثم النهاية المأساوية، والتي لا يخفف من قسوتها السراب الخادع لمستقبل زائف، ولا يؤجل من مجيئها حفر أشبار أو حتى أمتار في رمال، ليس تحتها ماء .. نزل من السماء .. وحفظ في الأرض .
[ 8 ] إذا لم تكن قادرا على تغيير أحوالك وتسيير أمور حياتك، فإن هذا معناه أنك تدور في حلقة مفرغة من المعاناة الدائمة، ومعناه أكثر أنك لا تتحرك في حياتك حركة واعية، وبالتالي فأنت طبعا لا تحركها نحو ما تتمناه .
[ 9 ] إذا قابلتك المشاكل فتصبر، فمن هذا الذي لا يلقى سفيها يؤذيه، أو خبيثا يوقع به، أو حاسدا أو حاقدا يعمل على إلحاق الأذى به؟.. فمن هذا الذي تصفو له الدنيا بلا حر ولا برد؟.. إنها كلها ابتلاءات، وكلها بتقدير الله .
والمطلوب أن يحسن المسلم التصرف إزاءها، فلا تستهلك مشاعره فتكون شغله الشاغل، ولا توجه أعماله فتستفزه إلى ما لم يكن يريد، وتحرف مراحل حياته عن أهدافها المرسومة وفق العلم والفهم غير المتأثر بالظروف الضاغطة أو الصارفة .
[ 10 ] أخي الحبيب .. ليست الواقعية والمثالية طرفان لا يلتقيان، بل هما وجهان لعملة واحدة. فالمثالية تبين الهدف المنشود، وتنظف الطريق الموصلة إليه. والواقعية تبين الحال الموجودة، وكيفية تغييرها ببدائل متنوعة، وما في كل منها من عقبات ومشقات بجوار المزايا. وما جاوز ذلك فإفراط إلى سباحة في الخيال، أو تفريط إلى سفول في الانهزامية .
الحزم .. الحزم .. لا ينفرطن عليك أمرك، ولا تبعثر الكلام فتصبح له أسيرا، ولربما حمله عنك من لا يروم الخير لك، ولعل أقل ما في الأمر أنك لا تدبر أمرك وحدك، بل قد يتدخل فيه غيرك .
[ 11 ] وبعد، فما أسرع مرور الليالي وجريان الأيام في عمر أسأل الله أن يصلحنا فيه، وأن يستخدمنا لطاعته، وألا يعرض عنا ويستبدل بنا غيرنا، ممن هو أطهر قلبا وأكثر بذلا وأعظم ذلة وانكسارا وإخباتا له، فهو – سبحانه – حسبنا ونعم الوكيل .
[ 12 ] إن الله – عز وجل – جعل الصبر جوادا لا يكبو وصارما لا ينبو، وهو والنصر قرينان، فعليكم بالصبر، وأبشروا وأملوا ما يسركم .
وليس أعون – بعد تقوى الله – من أخ صدق ووزير نصح، يعين في النشاط، ويذكر في الفتور، ويأخذ باليد، ويشارك في الفرح والترح، يفضي إليه القلب بسره، ويسكن ويطمئن بين يديه، يبين الزلل في غير ما عيب، ويثني على الصواب في غير ما حسد ولا قطع عنق، يهون الصعاب، ويقرب البعيد، ويبذل من نفسه وماله وجاهه بلا من .
فإن أنعم الله عليك به فإياك أن تفرط فيه بعجز، أو أن تهماه بكسل، أو أن تبيعه بثمن بخس .
[ 13 ] أخي الحبيب .. اسكن بقلبك في الآخرة، ثم عش في هذه الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. أخلص تعلق قلبك بربك ثم عامل الناس. إن الذي لا تجعله بإيجابيتك سلما لزيادة إيمانك سوف ينتصب عائقا في وجهك في الحال أو المآل، والسلامة لا يعدلها شيء .
أخي الحبيب .. ليس شيء يبقى وينفع إلا ما كان خالصا وابتغي به وجه الله – تعالى – ، وبه تستنير الأركان، وتحل البركات، وتذلل الصعاب، وتكون السعادة والسكينة. وما عداه فتعب للبدن، وهم للقلب، ونقص في العمر، وحسرة في الآخرة .
التعليقات