الاختلافات الشخصيه والطبيعه النفسية واثرها على الاختيارات الشرعيه والخيارات الحركية .
كثيرا ما يرجع سبب الاختلافات الفقهية ، والتباين في الاختيارات الشرعيه ، والخيارات الحركيه الى الطبيعه النفسيه للأشخاص ، والتفاوت بين ملكاتهم وأنماطهم – بل قد يكون أساس الانتماء للمدارس الفكريه والانحياز للجماعات الحركية مرجئة الى طبيعة الاشخاص ، وميولهم النفسيه ،وتركيبتهم العقليه ، اضافة الى تأثير البيئه المحيطه والظرف السياسي والتنوع في المشارب .
لقد فسر النبي – صل الله عليه وسلم – اختلاف رأيي أبي بكر وعمر في أسرى بدر بقوله : ( ان الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون الين من اللين ، وان الله يشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة).
وإذا أردنا أن نمثل لهذا التصور فليس أفضل من الشيخين – أبي بكر وعمر – لنعقد ينهما مقارنه تظهر لنا انعكاس اختلافاتهما الشخصيه على خياراتهم الفقهيه والحركيه ، خاصة أن في ايدينا كثيرا من المواقف التي تباينت فيها آراء الشيخين .
أبوبكر .. الصديق .. الانقياد المطلق ومدرسة الاتباع
من خلال استقصاء مواقف أبي بكر نجد أن صفة الانقياد المطلق للنبي – صل الله عليه وسلم – هي الخط الجامع لحركته . فهو يمثل بامتياز مدرسة الاتباع التي لا تحيد عن رأي النبي – صل الله عليه وسلم – قيد أنمله .
تجلى هذا الخط في قصة صلح الحديبيه ، وتسليم ابي بكر لأمر رسول الله – صل الله عليه وسلم – ، ورده على عمر حينما كلمه في المعاهدة بنفس ما رد به الرسول على عمر . معلنا عن منهجه : ” الزم غرزه فاني أشهد انه رسول الله ، وان الحق ما أمر به ، ولن يخالف أمر الله ولن يضيعه الله ” .
ولهذا كان أبي بكر هو أول من آمن بالنبي – صل الله عليه وسلم – واستحق بجداره وصف الصديق واختاره الله لشرف صحبة النبي – صل الله عليه وسلم – ونال هذا الشرف العظيم .
عمر .. المحدَّث .. العبقريه ومنهج الإبداع
في حين أن عمر كان يجادل النبي – صل الله عليه وسلم – ويقترح عليه كما في حادثة الحديبيه : ” فعلام نعط الدنيه في ديننا ” .
وكثيرا ما كان القرآن ينزل مؤيدا لرأيه كما في حكم أسرى بدر ، وقد وافقه ربه -كما قال- في مواضع ثلاث . لذلك وصفه الرسول – صل الله عليه وسلم – أنه من المحدثين . قال النبي – صل الله عليه وسلم : ” إنه كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون ، وانه ان كان في أمتي فانه عمر ” . وقال : ” لو كان نبي بعدي لكان عمر ” .
هذا الخط ظل ثابتا حتى بعد وفاة الرسول – صل الله عليه وسلم – بدا ذلك في أول خلاف بعيد وفاة الرسول – صل الله عليه وسلم – وهو انقاذ جيش أسامه ، كانت المدينة مهدده ، وجزيرة العرب ارتدت الا بعض القرى ، والمرتدون حول المدينه متربصون للانقضاد عليها . فكان الخروج من المدينه لقتال الروم في هذا التوقيت يعد مجازفه كبيره ، لذا عارضها عمر وكثير من الصحابه . لكن أبوبكر أصر على انقاذ الجيش وقال : ” لا أحل لواء عقده رسول الله – صل الله عليه وسلم – بيده ” . بل انه اصر على امارة أسامه للجيش وقال : ” استعمله رسول الله – صل الله عليه وسلم – وأقيله انا ” .
وعلى نفس السياق كان موقف أبي بكر من قتال مانعي الزكاه حين عارضه عمر وفريقه من الصحابه في بداية الأمر ، ثم اجتمع رأي الصحابه على القتال وسجل التاريخ كلمته الشهيره التي تظهر محافظته على مسيرة النبي -صل الله عليه وسلم – : ” والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ” .
حادثة أخرى اختلف فيها الشيخان وهي مسألة جمع القرآن . عارضها أبي بكر رضي الله عنه لأنها شئ لم يفعله النبي -صل الله عليه وسلم – فهو يتحرج من فعل ما لم يفعله النبي .
أما عمر لما رأى القتل قد استمر في القراء ، وخاف على القرآن من الضياع رأى بحسه العبقري ضرورة جمع القرآن . فمازال يكلم أبا بكر فيه حتى شرح الله صدره له .
منزلة الصحبة ..
ومن هنا يمكننا أن نقول أن شخصية الرديف أو ” الرجل الثاني ” تتناسب أكثر مع شحصية أبي بكر رضي الله عنه فهو دائما في موقع المؤازر للنبي – صل الله عليه وسلم- فكان ثاني اثنين ، واستحق وصف الصحبة بنص القرآن ” اذ يقول لصاحبه ” .
فلما جعل على رأس السلطه كان يرى ان عمر أولى منه ، وأراد دفع أمر الخلافة الى عمر ، لكن عمر ألزمه الخلافة لخيرية أبي بكر التي لا يبلغها احد من امة محمد صل الله عليه وسلم – فكان وجوده في هذا المكان انعكاسا لخيرية الأمه ، حيث لا يلبي أمرها بعد بيها الا اتقاها . ” ويأبى الله والمؤمنون الا ابابكر ” .. فلا تقدم على فاضلها مفضول في باب الايمان والتقوى . فقدم التقوى في هذه الحاله – دون غيرها من الحالات – على الملكات والقدرات والكفاءات.
لو كان نبي بعدي لكان …
أما عمر فإنه يحتل بجدارة مقام ” الرجل الأول ” .. وهذا ما يفسر معنى قوله صل الله عليه وسلم : ” لو كان نبي بعدي لكان عمر ” . مع أن أبا بكر أفضل من عمر . فكان أبو بكر يحتل منزلة “الصاحب” أي الرجل الثاني. وعمر يكون في مقام الرجل الأول .
البعد القدري في خلافة الشيخين ..
لقد كان استخلاف أبي بكر ومكثه في الخلافة مدة قصيره ،ثم استخلاف عمر من بعده وقضاؤه مدة أطول . كان لهذا الأمر حكمة ربانية عظيمه يتجلى فيها البعد القدري العجيب .
لقد كانت خلافة أبي بكر بعد عهد النبوة تأكيدا وترسيخا لحقيقة منهج دولة الاسلام ، وهو نهج دولة النبوة الأولى . وأن النهج الأصيل في هذه الدوله هو نهج الاتباع .
وهنا كانت أي مخالفه أو تغيير لخطة النبي صل الله عليه وسلم – هو هدم لهذا الخط وتهديد له ، خاصة اذا كان أول قرار للدوله الجديده هو نقض ماعقده النبي صل الله عليه وسلم قبل وفاته ( انقاذ جيش أسامه ) . فكان انقاذ جيش اسامه – مع وجود معطيات جديده في المشهد تحمل معها خطوره وتهديا لا يستهان به ، وتناقض الحسابات المنطقيه للواقع – كان هذا حفاظا على منهج الدوله الجديده ، واقرارا وتكريسا لخطها الأصيل . وكان هذا الاتباع فيه من البركة والخير بأن كف الله عن المدينة حشود المرتدين . وكان إنقاذ الجيش إرهابا للعرب وإظهارا لقوة الإسلام .
هذه المرحله المهمه لم تدم طويلا .. لكنها كرست وقررت خط الاتباع في الدوله الجديده في هذه المده القصيره ، التي كانت كافيه لترسيخ هذا المبدأ . فلما تحقق هذا المبدأ كانت خلافة عمر .
جاءت خلافة عمر وكانت الأطول حيث مثلت مرحلة بناء الدوله الجديده واحتاجت الى عبقرية وابداع ومرونة في الحركة منضبطه بالشرع ، تلبية لاحتياجات الدوله الناشئه ، ومواكبة لظرف التوسع المضطرد والحاجه الى استيعاب الممالك والأمم الجديده .
إذا فقد كانت الأمه في مرحلتها الأولى تحتاج لترسيخ أساس منهج الاتباع في حياتها .. وهي مرحلة لم تكن تحتاج لمدة زمنيه طويله .. كانت مرحلة حماية الأصول وبناء الأسس .. فكانت خلافة ابي بكر – الصديق – وكانت مدتها قصيره .
ولما جاءت مرحلة الانطلاقه والتمدد وبناء الدولة القوية وما واكبها من مستجدات التوسع ، كانت خلافة عمر – المحدَّث – ذات المدة الأطول .
والله أعلم
التعليقات