اختيار أهون الشرين

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

المسلم محب لانتصار الحق يسعى جهده لنصرة الحق، وكاره لانتصار الباطل يسعى جهده لهزيمة الباطل، وفي بعض الأحيان لا يكون المسلم طرفاً في الأمور الدائرة لكن هذا لا يعني أن يكون منعزلاً عن الأحداث فإنه وإن لم يشارك بالعمل إلا أنه يبقى له عمل القلب من المحبة والفرح لانتصار الحق، أو الكره والحزن لانتصار الباطل، وفي كثير من الأحيان يكون الطرفان المتقابلان على باطل لكن أحدهما أشد إيغالا في الباطل بينما الثاني أقل منه، وفي مثل هذه الحالة فإن المسلم يوازن بين الطرفين فيكون هواه مع أقلهما باطلا، وليس في هذا محبة منه للباطل الأقل، أو ما يخالف البراءة من كل باطل وضلال، ولكنها الموازنة الصحيحة حتى إن المسلم ليتمنى ويسر بانتصار كفرة أهل الكتاب على عابدي الأصنام أو الأوثان، فرغم أن الفريقين من أهل الضلال والشرك إلا أن عابدي الأصنام أشد كفراً وضلالاً، ومن ثم فإن المسلم يسر بانتصار الأقل كفراً وضلالاً على الأكثر مع أنه يشهد على كليهما بالكفر والضلال، وهناك حادثتان في ذلك أما أولاهما فقد أشار إليها القرآن وأما الثانية قد رويت في السيرة.

ما دل عليه القرآن:

الروم أهل كتاب والفرس أهل أوثان ومن ثم فهم أشد كفراً من الروم ولما قامت الحرب بين الفريقين وانتصر الروم أهل الكتاب على الفرس عباد الأوثان فرح المؤمنون بذلك،وفي ذلك يقول الله تعالى: }غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون{ روى الطبري في تفسيره أن ابن عباس، قال: “كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم أهل الكتاب، وكان المشركون يحبون أن يغلب أهل فارس؛ لأنهم أهل أوثان” وروى أيضاً أن ” أبا سعيد الخدري، قال: التقينا مع محمد رسول صلى الله عليه وسلم ومشركي العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا الله على مشركي العرب، ونصر الله أهل الكتاب على المجوس، ففرحنا بنصر الله إيانا على المشركين، وفرحنا بنصر الله أهل الكتاب على المجوس، فذلك قوله: }ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله{“، وقال مجاهد: “فرح المؤمنون بنصر الروم أهل الكتاب على فارس من أهل الأوثان”, وقال عكرمة لما هزمت فارس الروم في الجولة الأولى: “هزمت الروم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة، فشق ذلك عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم”.

ومن السيرة فقد ذكر ابن اسحق في السيرة أنه خرج على النجاشي رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، قال جعفر بن أبي طالب  “فو الله ما علمنا حزناً قط كان أشد منه، فرقاً أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرف، فجعلنا ندعوا الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض: من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون فقال الزبير- وكان من أحدثهم سناً-: أنا، فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه، فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا فقد أظهر الله النجاشي، فو الله ما علمنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي”، لكن قد يعكر على الاستدلال بهذه القصة أن يقال: إن النجاشي رحمهالله قد أسلم، فيكون فرحهم بانتصار المسلم على الكافر وهذا لا دليل فيه على المراد،وحقا إن النجاشي ثبت إيمانه وصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما مات، لكن من غير المعلوم على وجه القطع متى كان إيمانه أقبل الواقعة المذكورة أم بعدها، والغرض أن المسلم يوازن في الأمور المختلطة التي لا تصفو لجانب واحد فيوازن ويرجح خير الخيرين ويختار أهون الشرين، ومن ثم فلا يمكن أن ننظر لبعض المخالفات التي تقع فيها بعض الفصائل الإسلامية أو حتى بعض البدع التي ربما يكون دافعها الجهل أو الخطأ في تقدير الأمور تقديرا صحيحا أو حتى ضعف الإيمان، فنقف ضدهم ونحاربهم حتى يفضي أمرنا في آخر المطاف أن نكون في صف المحادين للدين نفسه متصورين أن هذا من باب إنكار المنكر أو البراءة من الباطل .

 


التعليقات