الدستور وثيقة قانونية عليا تدوَّن فيها ثوابت المجتمع التي تعبّر عن هويته والقضايا التي يراد لها أن تسود في المجتمع ، ومن ثم فإن الدستور الذي يُكتب لمجتمع متدين يحتل فيه الدين مكانته اللائقة به ، ومن الغريب الذي لا يستطاع له تفسير مقبول حرص بعض الأقليات ، سواء الدينية التي تعتنق ديناً مغايراً لدين الغالبية ، أو البدعية التي تعتنق منهجاً مخالفاً للمنهج الذي عليه الغالبية ؛ على أن تثبت رؤيتها وتصوّرها، أو على الأقل تمنع الأغلبية من إثبات رؤيتها وهويتها في الدستور أو تلجئها إلى الإبقاء على مجرد شكل ظاهري من غير أن يصل إلى حقيقة الهوية وإبراز خصائصها .
عندما نتابع ذلك في البلدان التي قامت فيها ثورات سلمية قريباً – مصر نموذجاً – وهي بصدد وضع دستور جديد لها ؛ نجد المحاولات المستميتة من أجل تحقيق هذا الهدف ، سواء عن طريق الاستقواء بالدول الخارجية كما فعل د. عمرو حمزاوي من استقوائه بالخارج والمنظمات الدولية لتعديل بعض مواد مسودة الدستور أو عن طريق الابتزاز ؛ ففي ظل رغبة القوى الإسلامية في إيجاد نوع من التوافق حول مواد الدستور التي فيها الخلاف الكبير بين التصور الإسلامي لها وبين الآخرين ؛ يتم استثمار هذه الرغبة في الحصول على تنازلات ، وكذلك عبر التهديد بالانسحاب من اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وممارسة الانسحاب فعلاً، ورفع الدعاوى القانونية أمام المحكمة الدستورية ، وهي محكمة قد أبان بعض أعضائها أنها محكمة خرجت عن حدود الحياد الذي ينبغي أن يكون في القاضي، وإنما صارت صاحبة توجه سياسي يصب في خانة التوجه الليبرالي والعلماني، وعندما أدركت القوى الإسلامية حجم التآمر على المشروع الإسلامي دعت إلى ما سمي «جمعة الشريعة»، حيث خرج مئات الآلاف من جماهير الشعب المسلم إلى الشارع يعلنون رغبتهم ومطالبتهم بتحكيم الشريعة ، ورغم أن هذه الجمعة قد تغيّب عنها أكبر حزبين إسلاميين هما حزب الحرية والعدالة المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين ، وحزب النور المنبثق عن الدعوة السلفية في الإسكندرية وأعلنا عدم المشاركة فيها ؛ إلا أن جماهير الشعب المسلم خرجت إلى الشارع معبّرة – في صورة واضحة لا تقبل التشكيك – عن ولائها ومحبتها لدينها وأن تكون شريعة الله تعالى هي الحاكمة على كل ما يدور في المجتمع، وكان المأمول أن تفهم كل القوى السياسية مغزى هذه الرسالة الواضحة ؛ رسالة جمعة الشريعة ، وأن تحكيم الشريعة لم يعد – كما كان يظن أو يصور – مطلباً فئوياً أو رؤية حزبية ، وإنما هو خيار الشعب ، إلا أن الأمور ظلت على ما هي عليه ، بل حاولوا إفراغ هذه الجمعة من أكبر دلالاتها تحت الزعم بأنها كانت عملية استعراضية ، وكان المنطق السليم أن تقدر تلك الأقليات الخيار الشعبي إن لم يكن من منطق الدين فمن المنطق الديمقراطي الذي يقدسونه ، لكنهم ظلوا على مواقفهم أملاً في أن تتنازل الأكثرية عن هويتها لصالح رغبات الأقلية ، وهذا المسلك يعبّر عن أن الأنانية المفرطة لدى هذا التيار قد بلغت ذروتها ، ولم تعد محاولة التوافق أو الوصول إلى قواسم مشتركة ذات جدوى ، وأن الطريق الصحيح أن يتمسك المسلمون بأحكام الشريعة في وضوح ونصاعة تامة من غير أدنى تنازل أو سعي كاذب لتوافق مزعوم .
المسائل المحورية بين الإسلاميين ومخالفيهم تتمثل في نقاط أساس: مرجعية التشريع في الدولة، ضوابط الحريات، والقوانين المخالفة للشريعة.. هذه ثلاث حزمات أساس يدور حولها الخلاف:
فبينما يعتقد المسلمون اعتقاداً جازماً بأن الشريعة الإسلامية يجب أن تكون مرجعية التشريع الوحيدة في المجتمع، إلا أن القوى الأخرى تأبى ذلك أشد الإباء، وقد تضمن الدستور مادتين تضمن للقوى غير الإسلامية تحقيق رؤيتهم، فمن ذلك النص على أن السيادة للشعب، أي أنه الجهة التي لا تعلوها جهة أخرى بحيث يكون لما تراه أو تفرضه من قوانين أو قرارات العلو المطلق على ما عداها، وأن كل ما خالفها أو عارضها موصوف بالبطلان الذي لا نفاذ له، وهذا مخالف لما هو مستقر في عقيدة جميع المسلمين من أن الشريعة لها العلو المطلق على كل القوانين والأنظمة، وقد قال عمر – رضي الله تعالى عنه – في حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم : السيد هو الله . فأقره ولم يعترض عليه . وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يعلو ولا يعلى».
ومما يضمن تحقيق رؤيتهم اقتصار المادة الثانية التي تتحدث عن مكانة الشريعة في إصدار تشريعات أو قوانين جديدة على مبادئ الشريعة وليس الشريعة نفسها، ومعلوم أن تفسير المحكمة الدستورية لهذه المادة قد أفسدها وجعلها صورة بمضمون فارغ، حيث كان لتفسيرها ثلاث زوايا:
فسرت المبادئ بما كان قطعي السند والمتن بما يخرج جمهور نصوص الشريعة من مصدرية التشريع لأنه لا يتحقق فيها هذا الشرط.
هذا النص موجه للسلطة التشريعية وليس القضائية؛ بما يعني أن القاضي يلتزم بالقانون ولو كان مخالفاً للشريعة طالما لم يقر الحكم الشرعي من البرلمان.
هذه المادة تطبَّق على ما يستجد من القوانين، أما ما كان موجوداً من قبل إقرار هذه المادة فلا تسري عليه .
والتفسير الذي وُضع لها في مسودة الدستور في المادة رقم 220 التي تنص على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة » ؛ لم يبتعد كثيراً عن تفسير المحكمة الدستورية.
ومن غير الدخول في التعليق على مضمون هذا التفسير ، فإن أقل ما يقال فيه : إنه تفسير غير محكم، بل هو تفسير قابل للتفسير والتأويل بحيث يفقد قدرته على الحسم في موارد النزاع، ثم جاءت المادة رقم 223 بعد المادة التفسيرية رقم 220 لتؤكد تفسير المحكمة الدستورية ولتقضي على أي أمل في إلغاء أي قانون سابق يعارض الشريعة، حيث نصت المادة 223 على أن «كل ما قررته القوانين واللوائح من أحكام قبل صدور الدستور يبقى صحيحاً ونافذاً بما لا يخالف أحكام الدستور، ولا يجوز تعديلها ولا إلغاؤها إلا وفقاً للقواعد والإجراءات المقررة في الدستور»، فمنع الدستور إمكانية التعديل أو الإلغاء للقوانين السابق إصدارها على إقرار الدستور يعني استمرار القوانين المبيحة للموبقات وعدم القدرة على تغييرها .
وقد فتحت مواد الدستور باب الحرية على مصراعيه فأطلقتها من غير زمام ولا خطام، حيث نصت المادة 41 على أن «حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن فكره ورأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير»، ولم تقيد ذلك بأي قيود، وكفلت حق نشرها بمختلف الوسائل مما يمكن للملحدين والمفسدين من نشر رؤاهم وأفكارهم على المجتمع وهو مما يفتح أبواب الشر في المجتمع .
ولعله يظهر من هذا العرض السريع أن مسودة الدستور لم تنحز إلى الخيار الإسلامي انحيازاً كاملاً، وأنه يتعين أن تجري التعديلات اللازمة على تلك المسودة حتى تكون معبّرة عن الفهم الصحيح للشريعة وعن رغبات وآمال المسلمين .
التعليقات