في الوقت الذي تقطع فيه قوافل الحجيج دربهم إلى بيت الله العتيق، و تقتفي في خطاها آثار إبراهيم الخليل، و آله المباركين، يقبع الأسير خلف الجدران يشاركهم سيرهم ويسابقهم في “سعيهم”.
يقبع الأسير وهو يمضي “مهرولا” متعجلا مهاجرا.. ليقطع رحلة الحياة إلى درب البيت العتيق.. يمضي على “ملة إبراهيم” وسبيله ينطبق وقع قدمه مواضع قدمه، و يجدد سيره معالم رحلة أبي الأنبياء عليه السلام.. يمضي وقد حطم طواغيت البشر كما حطم أبيه طواغيت الحجر.. يمضي وقد ألقوه جراء فعلته تلك في جحيم السجون، كما ألقي قبله الخليل في جحيم النار.. فصار الأسر بردا و سلاما عليه كما كانت النار بردا وسلانا على من سلفه {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}.
يمضي الأسير ليجدد آثار هذا البيت النبوي الكريم، ويعيش معهم حياتهم، هذا الأسير الذي استجاب لنداء ربه، ولنداء النفير، حتى صار حاله إلى هذا المكان المقفر، لا أنيس فيه ولا نصير، تحفه حيات البشر وعقاربهم، تنهشه هذه وتلدغه تلك، لكنه يعلم يقينا أنه لن يضيع، يتذكر كلمات هاجر “عليها السلام” (آ الله أمرك بهذا، إذا لن يضيعنا).
لقد تعلم الاستسلام المطلق لله.. الانقياد و التسليم التام لأمره.. الرضى و التسليم التام لأقدراه.. مهما كانت هذه الأوامر شاقة.. مهما تكن هذه الأقدار مؤلمة، إنها “التضحية” بكل شيء في سبيل الإله و لو كان “بالنفس”.
إن الانقياد للأمر ولو كان في إشارة خفيفة، لا تكليف صريح.. إنها العبودية.. إنها سبيل النجاة.. إنها طريق الحرية و “الفداء”.
هذا الأسير و هو في غياهب السجون، تأتيه شياطين الإنس و الجن، ليثنوه عن عزمه، ويصدفونه عن إكمال طريقه، فلم يكن له بد إلا أن يدفع وساوسهم “ويرجم مبادراتهم”، يضرب يد الصلح الآثم، ويقطع عرق زيتون على جسد شهيد.
إنه يعلم أن طريقه “الفداء”.. فداء الدين والعرض والوطن.. هو طريقة للاستسلام والعبودية لله وحده، والبذل والتضحية في سبيله.. لذا سيمضي على ملة إبراهيم ودربه، درب النجاة والسلامة في الدنيا والمقام العالي في الأخرة {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}.
التعليقات