يحمل التاريخ إلينا خبر تجربتين متراميتين و متباعدتين إلى حد كبير , ثورتان قامتا ابتداء فى توقيت متقارب من حكم بنى أمية , لكنهما أخذتا مسارين مختلفين و نهايات متضادة .
ثورة العباسيين و ثورة الطالبيين , تجربتان جديرتان بالبحث و التأمل لكل من يروم التغيير , تتجلى فيها أهمية التحضير و اختيار الحاضة الشعبية , و مكان انطلاق الدعوة و موعد إظهارها و قيمة انتخاب عناصر الدعوة و الجهاد و الرجال المناسبين لكل مرحلة , وشكل الراية المرفوعة و طبيعة الخطاب الجماهيرى الذى يجمع الناس , وحسن اقتناص الفرصة السانحة
– كان دعاة بنى العباس فى الشام لكنهم اختاروا مركز دعوتهم فى مكان آخر وهو خرسان , فهى منطقة بعيدة عن حاضرة الخلافة
فى البداية كانت الدعوة سرية , وحتى عندما انكشف جانب منها لبنى أمية لم يعبأ بها لعدم إدراك حجمها الحقيقى و مقدار خطرها لبعد المسافة
– ثم جاءت مرحلة جديدة حيث بعث إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس أبا مسلم إلى خرسان يوليه ما غلب عليه من أرضها , وقال له : إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل , ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار و اتهمته فاقتله
و هنا نلمس اختيار رجال المرحلة الجديدة , فرحلة الدعوة لها رجال و مرحلة الظهور و إعلان الدعوة لها رجال , وكان الاختيار الصحيح للشخصية المناسبة التى تحمل المؤهلات المطلوبة للدور الجديد و متطلبات المرحلة , فأبا مسلم شهم صارم ويتمتع بقوة عزم , وجودة فى الفهم , وهو مولى لبنى العباس ولاؤه لهم لا ينازعهم أمرهم
– و لأجل تأمين الثورة الناشئة كان لابد من شن هجمات استباقية و حمايتها من الأخطار التى تتهددها ” إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لسانا عربيا فافعل , ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار و اتهمته فاقتله ” .. و فيه دراسة لطبيعة التركيب السكانى , وخارطة الأعراق و تكوينها النفسى و السلوكى و مكمن الخطر و بؤر التهديد فيها .
– كانت الدعوة عامة وجامعة غير محددة ولا مفصلة ليلتف حولها ويتعاطف معها أكبر قدر من الناس , فلم تحدد لمن تلك الدعوة ولا شخصية الإمام إنما كانت للرضى من آل البيت وجعلت السواد شعارا وعلامة ” عمامة الرسول السوداء التى كانت عليه يوم فتح مكة ” , كما استخدمت أحاديث الرايات السود للتسويق لمشروعها
– توقيت ظهور الحركة كان مناسبا , فالبيت الأموى منقسما متناحرا ممزقا شب بينه القتال وذلك بعد استيلاء مروان بن محمد على الخلافة وقتال سليمان بن هشام له .
و فى العراق كان للخوارج قوة وشوكة , واجتمع حول الضحاك عدد كبير لم يجتمع لهم مثله .
أما خرسان فإن أميرها نصر بن سيار مشغول بقتل الكرمانى و شيبان بن سلمة الحرورى
و فى فارس تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ثم كسر , و استولى أبو حمزة الخارجى على المدينة ثلاثة أشهر .
– الانتقال من مرحلة الدعوة و الثورة إلى مرحلة الدولة , واستبدال رجال الدولة برجال الدعوة و المعالجة المبكرة لأى بوادر ثورة متوقعة أو جيوب انفصالية يتجلى ذلك فى قول أبى جعفر للسفاح لست خليفة ما دام أبو مسلم حيا حتى تقتله ,لما رأى من طاعة العسكر له , وكيف احتال أبو جعفر عليه حتى قتله .
– أما التجربة الثانية : فهى ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن ” الملقب بـ صاحب النفس الذكية ” و أخيه إبراهيم . وهما من أهل النبل و الفضل و الصلاح من أبناء على بن أبى طالب و أبوهما من أشراف التابعين , وقد أيد هذه الثورة الإمامان الجليلان أبو حنيفة و مالك بطريقة غير مباشرة
– كان خروج محمد بن عبد الله بالمدينة و هى بلده ليس فيها مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح , فلو قطع عنهم ميرة الشام لماتوا جوعا
ولقد نصح بأن المدينة لا تصلح فليس فيها مال يستعان به على استخدام الرجال , لكنه لم يأخذ بالنصيحة
– لم يكن توقيت الخروج مناسبا , فقد طلب من أهل الشام البيعة فلم يجيبوه حيث ملو اكثرة الحروب من أيام مروان بن محمد .
استشار محمد بن عبد الله هل يقيم بالمدينة حتى يصل جند المنصور فيحاصروها أم يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ؟؟ فمالوا إلى المقام فى المدينة لأن النبى صلى الله عليه وسلم ندم يوم أحد على الخروج منها ثم اتفقوا على حفر الخندق حول المدينة كما فعل النبى , و فى ذلك تحجر فى المسائل غير مطلوب وعدم اعتبار تغيير الواقع .
– أما الخطاب الإعلامى فلم يكن مناسبا و افتقد القدرة على حشد الأنصار , فعندما اقترب جند المنصور من المدينة قام محمد فخطب فيهم وحضهم على الجهاد فقال لهم من جملة ما قال ” أنى جعلتكم فى حل من بيعتى فمن أحب منكم أن يقيم عليها فعل و من أحب أن يتركها فعل ” فتسلل كثير منهم عنه , ولم يبقى معه الإ شرذمة قليلة
وهذا الخطاب مع ما فيه من نبل وكرم لا يصلح من قائد على أعتاب معركة .
– و من صلاحهم و نبلهم أن أحد أمراء المنصور هو خالد بن حسان واطأ محمد بن عبد الله على أمرهم و عزموا فى بعض الحجات على الفتك بالمنصور بين الصفا و المروة لكن عبد الله بن الحسن نهاهما لشرف البقعة .
– و لما دخل جند المنصور المدينة و ضيقوا على محمد بن عبد الله ترجل إلى الأرض و كسر جفن سيفه و عقر فرسه و فعل أصحابه مثله , و صبروا أنفسهم للقتال و قتل محمد وحده سبعين رجل من أبطالهم
و ظل كذلك حتى بقى وحده ليس معه أحد و فى يده سيف صلت يضرب به من تقدم إليه , فكان لا يقوم له شيئ إلا أنامة ثم تكاثروا عليه فقتلوه .
– أما إبراهيم فقد خرج من البصرة , وكانت ظروفه أفضل , حيث كان نائب البصرة من جهة المنصور ممالئا له , و كان فى المدينة أموالا وبايعه من حوله من البلاد و استطاع أخذ فارس و واسط و المدائن و الأهواز .
و قد أشير عليه بأقوال جيدة كانت ستقلب المعركة لصالحه لكنه مال لغيرها من الأراء . أشار عليه بعضهم أن يجعل الجيش كراديس , فإن غلب كردوس ثبت الآخر , و قال آخرون الأولى أن نقاتلهم صفوفا لقوله تعالى ” إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ” فمال لرأيهم !
الخلاصة :
التاريخ يسرد لنا تجارب فشلت لعدم استكمالها مقومات النجاح حتى مع نبل و ديانة أصحابها كجل ثورات الطالبين وعلى رأسهم سيد الشهداء الحسين بن على فى حين نجحت ثورات أقل نقاء و أصحابها أقل فضلا لكنها استجمعت مقومات النجاح
التعليقات