تأملات فى التاريخ و الواقع

– المتأمل فى تاريخ الأمة يخلص إلى نتيجة واضحة , و هى أن نهضتها وصحوتها كثيرا ما تنبعث فى أقطارها المختلفة بالتوازى وفى فترة زمنية واحدة بحيث إذا انطلقت صحوة فى المشرق بالتزامن معها صحوة بالمغرب .

فعندما وصل السلاجقة لأوج قوتهم وسيطروا على المشرق الإسلامى كله , حتى وصلوا إلى العراق و كلل انتصارتهم بتخليص الخلافة العباسية من ربقة بنى بداية الروافض ثم امتد نفوذهم إلى الشام حتى التحموا مع العبيديين هناك فى بعض نقاط التماس كما شب بينهم وبين الروم فى الأناضول . تزامن هذا مع ظهور دولة جديدة فتية فى أقصى المغرب الإسلامى وهى دولة المرابطين , التى انطلقت من مصب نهر السنغال , واحتوت القبائل الصنهاجية القانطة فى الصحراء لتمتد وتتوسع فى الاتجهات الأربعة لتشمل كلا من غانا ومالى و النيجر وتشاد و تتوغل فى أرض الوثنيين الزنوج و المغرب الأقصى و الأوسط حتى السواحل الجنوبية للبحر المتوسط وتسقط فى طريقها كيانات منحرفة و بدعية , ثم تعبر بعد ذلك إلى الأندلس وتوقف زحف المشروع الصليبى هناك .

كما أننا نجد فى الفترة التى ظهر فيها نجم عماد الدين زنكى وابنه نور الدين , كانت الخلافة العباسية قد استردت بعض عافيتها وهيبتها وصار لها نوع قوة و شوكة بعد طول اعتلال , لم تعد مجرد ألعوبة فى أيدى السلاطين , وظهر خلفاء أقوياء من أمثال المقتفى ومن قبله المسترشد
– فى سياق مقابل فإن صعود الأمة دائما ما يواكب ضعفها لمعسكر الخصم , فالتزامن مع انتعاش الخلافة العباسية وتوحد جبهة الشام تحت قيادة قوية و مخلصة , كان تضعضع مكانة العبيديين و تراكم عوامل الضعف التى نخرت فى دولتهم بمصر وهى تشكل صور تجلى البعد القدرى وتأثيره على نهوض هذه الأمة ورفعتها .

-ظاهرة أخرى جديرة بالتأمل و هى أن الكيانات الإسلامية المجاهدة المختلفة يعضض بعضها بعضا , ويآزر بعضها بعضا , ويقوى بعضها تأسى ببعض فقد كان إسقاط صلاح الدين للعبيدين تقوية فى بغداد , وظهور المرابطين فى الأندلس حائل دون اشتراك القوى الأوربية بكل ثقلها فى الحروب الصليبية فى الشرق .

– المكتبة الإسلامية تذخر بأسماء وقامات من أئمة العلم و أعلام الفكر رفعت لواء التجديد و فتحت أبواب الاجتهاد و البحث و الاستنباط و التجديد و لو تتبعنا طبقات هؤلاء العلماء لاكتشفنا أن هذه الأسماء واكبت فترات نشطت فيها الحركة الجهادية , وراجت أسواقها , وكان البعض منهم من أسباب انبعاث هذه الحركة و الكثير منهم هو ثمرة لهذه البيئة الصحية المحفزة للحركة و الإبداع , بل إن بعضهم قد برز اسمه لرعاية هذه الحركات له و تبنيها مشروعه .

ففى الشرق كان عندنا الجوينى و الغزالى و ابن الجوزى وغيرهم من علماء العصر السلجوقى , و فى الغرب برز دور فقهاء المالكية مع المرابطين كابن رشد , وابن العربى , والقاضى عياض و غيرهم .
و فى الشام مع ارتفاع رايات الجهاد ضد الصلبيين و المغول , ارتفعت معها أسماء أئمة العلم والجهاد كابن قدامة المقدس , و عبد الغنى المقدسى , والعز بن عبد السلام , و ابن تيميه , وابن القيم , وفخر الدين الرازى , والنووى , و الذهبى , وابن كثير
فأغلب مشاهير العلماء ” على مر العصور و كر الدهور ” من أصحاب المصنفات الكبيرة و العلوم الوفيرة هم أناء هذا الواقع الحيوى و النشط من تاريخ الأمة
وعند استعراض تراجم هؤلاء العلماء نجد أن لهم خصالا مشتركة , ومناقب متشابهة , حيث جمعوا بين العلم الغزير و العمل الدؤوب , والفكر العميق و الحركة المتوقدة , وحلقة العلم وساحات الجهاد , و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر , والصدع بحق و الشدة على الظالم .
فقد قيل فى ترجمة ابن العربى :
أنه ” ترك التقليد للقياس ” , ” والتزام الأمر بالمعروف و النهى عن المكنر حتى أوذى فى ذلك بذهاب كتبه و ماله فأحسن الصبر على ذلك كله ”
و ” كانت له فى الظالمين صور مرهوبة ”
فى حين تجد أن استشراء التقليد المذموم , والتعصب المذهبى و الجمود الفكرى لابد أن يصاحب الجمود الفكرى الحركة القعود عن الجهاد , ففى الفترات التى تركت الأمة فيها شعيرة الجهاد ساد الجمود و التقليد و إغلاق باب الاجتهاد الواقع العلمى وطغى التعصب المذهبى على المدارس الفقهية , وابتعد الفقهاء و العلماء عن واقع الأمة , واحتياجات الناس , وقضايا العصر , و واجبات الوقت
” و فى القرنين الثانى عشر و الثالث عشر الهجريين أمثله صارخة على ذلك ”

حتى لو وجد نشاط علمى فى مراحل الترهل الحركى و القعود عن الجهاد , وخاصة إذا توفرت حياة البذخ و الرفاهية المفرطة , فإنه يكون نشاطا ضارا يؤدى بأصحابه إلى مسالك غير شرعية , ومباحث علمية غير نافعة , ومسائل لا يترتب عليها عمل , وترف فكرى تلغ فيه العقول فى أرض المحرمات فتهوى بالبعض فى وديان الهوى وقيعان البدعة .

” تأمل عندما ضعفت حركة الفتوحات فى العصر العباسى و ما وكبه من الانشغال بعلم الكلام , والجدل الفكرى فى مسائل ومذاهب ما أنزل الله بها من سلطان
الخلاصة :
1- صحوت الأمة وانبعاثها يكون بالتوازى فى كثير أقطارها .
2- نهوض المسلمين وقوتهم دائما ما يتزامن مع ضعف خصومهم وتضعضعهم .
3- الحركات الإسلامية المتعددة و المتنوعة جغرافيا أو فكريا وحركيا ” داخل إطار أهل السنة ” يقوى بعضها بعضا .
4- حركة الأمة وفاعليتها و إعلائها لشعيرة الجهاد يواكبه ارتقاء و نهضة فى الجوانب العملية .
5- الجمود الفكرى يصاحب الجمود فى الحركة و القعود عن الجهاد .


التعليقات