قواعــــد وضــــوابط في اعتبـــــار المصـــــالح والمفـــــاسد

يرجى ملاحظة أن هذه المقالة من المقالات القديمة التي لا يتطابق تاريخ نشرها على الموقع مع تاريخ نشرها الفعلي

يقول الشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله – في تقديمه لرسالة الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي– رحمه الله –  (المصالح المرسلة): (ومكمن  الخطر في ادعاء المصلحة لأنه ادعاء عام، وكل يدعيه لبحثه فيما يذهب  إليه… ولن يذهب مجتهد قط إلى حكم في مسألة لا نص فيها إلا وادعى أنه ذهب  لتحقيق المصلحة..ولكن، أي المصالح يعنون..إن المصلحة الإنسانية الخاصة أمر نسبي، وكل يدعيها فيما يذهب إليه… ومن هنا كان الخطر..ولكن  حقيقة المصلحة هي المصلحة الشرعية التي تتمشى مع منهج الشرع في عمومه  وإطلاقه، لا خاصة ولا نسبية… فهي التي يشهد لها الشرع الذي جاء لتحقيق  مصالح جميع العباد، ومراعاة جميع الوجوه، لأن الشرع لا يقر مصلحة تتضمن  مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها ظهر أمرها أو خفي على باحثها، لأن الشارع  حكيم عليم…كما أن المصلحة الشرعية تراعي أمر الدنيا والآخرة معاً، فلا تعتبر مصلحة دنيوية إذا كانت تستوجب عقوبة أخروية…

وفي  هذا يكمن الفرق الأساسي بين المصلحة عند القانونيين الذين يقولون: حيثما  وجدت المصلحة فثم شرع الله. وبين الأصوليين الشرعيين الذين يصدق على منهجهم  أنه حيثما وجد الشرع فثم مصلحة العباد)

فانتبه  إلى هذا الكلام الذي يعلوه نور العلم ، وكيف نبه – رحمه الله – إلى مكمن  الخطورة في هذا الأصل العظيم من أصول الشريعة ، حيث يسهل لكل من أراد أن  يُخلط على الناس دينهم أو أراد ممالأة الظالمين أن يتلبس في مسعاه ويتستر  حول مصالح (مزعومة) ، فتُغيَّب الشريعة ويلبس على الناس الحق بالباطل باسم  المصلحة ، ويضيع الدين وتنخرم أصوله تحت دعاوى الحفاظ عليها ..

فلا  عجب أن انتصب جهابذة علم الأصول للضبط والتقعيد لهذا الأصل العظيم ليكون  سائراً في ركاب الشريعة متضافراً لإقامتها ، لكي لا يتركوا لكل دعيٍ للعلم  أن يخبط به خبط عشواء بين مصالح متوهمة أو مظنونة يبتغي تحصيلها على حساب  التفريط في أصول الشريعة ومحكماتها ..

وفي  هذا البحث الموجز – أستعين بالله- وأوضح عدداً من هذه القواعد والضوابط  التي تضبط هذا الأصل من أصول الشريعة ألا وهو (اعتبار المصالح والمفاسد)

أولاً: قواعد في اعتبار المصالح:

القاعدة الأولى: الشريعة مبناها على تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة:

مصالح العباد ليست محدودة بالدنيا فقط  بل تشمل مصالح الدنيا والآخرة،ومن ذلك إقامة  الحدود على مستحقيها،فإنها مصلحة في الدنيا بردعهم ، ومصلحة في الآخرة –  وهي الأعظم-  بتكفير ذنبهم ففي حديث عبادة بن الصامت:” ومن أصاب من ذلك  شيئاً ثم عُوقب به في الدنيا فهو كفارةٌ له”.متفق عليه ، وهذا مما يميز الشريعة الإسلامية عن الأنظمة الوضعية التي تنظر إلى تلك العقوبات على أنها مصادمة لحقوق الإنسان ..

يقول الإمام الشاطبي: « وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل»[1].
ويقول  الإمام ابن القيم:« إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد  في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها،  فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى  المفسدة وعن الحكة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل »[2].  )
ويقول – أيضاً – : «أساس الشريعة الإسلامية جلب كل مصلحة تنفع العباد ودرء كل مفسدة تضر بهم».

وهذه القاعدة تضمن أمور([3]) :
الأمر الأول:  أن الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولا ينهى إلا عما  مفسدته خالصة أو راجحة. وهذا الأصل شامل لجميع الشريعة لا يشذ عنه شيء من  أحكامها .
الأمر الثاني: أن هذه الشريعة لم تهمل مصلحة قط، فما من خير إلا وقد جاءت به، وما من شر إلا وقد حذرت منه.
الأمر الثالث:  أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين الشرع والمصلحة، إذ لا يتصور أن ينهى الشارع  عما مصلحته راجحة أو خالصة، ولا أن يأمر بما مفسدته راجحة أو خالصة.
الأمر الرابع: أن من ادعى وجود مصلحة لم يرد بها الشرع فأحد الأمرين لازم له: – إما أن الشرع دل على هذه المصلحة من حيث لا يعلم هذا المدعي. – وإما أن ما اعتقده مصلحة ليس بمصلحة.

فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : (والقول  الجامع : أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين  وأتم النعمة ، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي – صلى الله  عليه وسلم – ، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا  هالك . لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين  لازم له: – إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر ، – أو أنه ليس بمصلحة وإن اعتقده مصلحة ، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو  الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه  منفعة مرجوحة بالمضرة ، كما قال تعالى : [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ] [سورة البقرة:219] وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل  التصوف وأهل الرأي وأهل الملك ، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا  وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه  قد يكون من هذا الباب)([4]).

فمفهوم هذه القاعدة كما قال شيخ الإسلام (أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط ، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة)  ، فلن تجد مصلحة إلا وقد راعتها الشريعة ، ومن ادعى غير ذلك فقد لزمه  اتهام الشريعة بالنقص وأن عقله قد تنبه لمصلحة لم يذكرها الوحي، وهو محال  مردود!!

القاعدة الثانية: أن المصلحة المعتبرة هي التي تحافظ على مقصود الشارع :

المصلحة في لغة العرب تتضافر معانيها على أن «المصلحة هي جماع الخير» ، فجاءت بمعنى:

· الصلاح ضد الفساد.
· الرأفة والرحمة في التعامل “أصلح الدابة: أحسن إليها”.
· الصلح وهو السلم، وهو ملازم للأمان والاطمئنان والاجتماع.
· “صلاح” وهو من أسماء مكة التي جعلها الله حرما آمنا. وفيها يكون الاجتماع

وهو ما يتناسب مع تعريفها الاصطلاحي فجماع الخير في الدنيا والآخرة هو ما جاءت به الشريعة ، لذا عرفوا المصلحة الشرعية أنها : (المحافظة على مقصود الشارع) . يقول الغزالي: (فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكن نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع،  ومقصود الشارع من الخلق خمسة وهي أن يحفظ لهم دينهم وأنفسهم وعقولهم  ونسلهم وأموالهم.  وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما  يفوتها فهو مفسدة ودفعها – أي المفسدة- مصلحة).

أما  الإمام الشاطبي فقال: (انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث  من الضروريات والحاجيات والتحسينات وكانت هذه الوجوه مبثوثة فى أبواب  الشريعة) ، وقال – أيضاً – : (والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يُقيم  أركانها ويُثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني  ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارةً عن مراعاتها من  جانب العدم)

فيتضح مما سبق أمور:
الأمر الأول: أن المصلحة هي المحافظة على مقصود الشارع بحفظ الضروريات فالحاجيات فالتحسينيات.
الأمر الثاني: أن المصلحة تضمن ما يقيم أركانها وجوداً ، وما يدرأ عنها الاختلال عدماً.
الأمر الثالث: أن المصلحة لا تكون معتبرة شرعاً حتى تكون مُحققة لمقصد شرعي، ومقاصد الشريعة متضمنة لجميع مصالح للعباد في العاجل والآجل.

يقول  الدكتور فوزي خليل: « المصلحة إن ناقضت مقاصد الشريعة، أو أحدها فهي ليست  مصلحة على سبيل الحقيقة، حتى وإن بدا فيها نفع ظاهر، بل هي مفسدة يجب  دفعها»[5]

فلفظ (المصلحة) ليس لفظاً (مطاطاً) لا حد له ، بل حده المحافظة على مقاصد  الشريعة ، وليس ما يتوهمه البعض من مصالح (فرضية) تناقض شيئاً من مقاصد  الشريعة ،وأمثال هذه المصالح الموهومة (ملغاة) وحقيقتها أنها مفاسد من حيث  يظنها متوهمها (مصالح)..

القاعدة الثالثة : النظر إلى المصلحة والمفسدة يكون بميزان الشرع لا بالأهواء:

يقول الإمام الشاطبي: (إن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه والذي  يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له فقد يكون ساعيا فى مصلحة نفسه من وجه  لا يوصله إليها أو يوصله إليها عاجلا لا آجلا أو يوصله إليها ناقصة لا  كاملة أو يكون فيها مفسدة ترني فى الموازنة على المصلحة فلا يقوم خيرها  بشرها) ..

ويقول – أيضاً – : (إن  الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله  وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء  النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه: [ولو اتبع الحق  أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن] ، ويقول عليه الصلاة والسلام: “لا  يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به”) ومن أمثلة ذلك الجهاد قال تعالى:[كتب عليكم القتال وهو كره لكم]

وهنا فائدة .. فإن الحق قسيمه الهوى، وكل مصلحة (موهومة) خالفت موازين الشريعة فإن مبعثها الأهواء ولا ريب ، قال تعالى : [فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ..  وقد يُلبس الشيطان على المرء فيظن أهواءه مقاصداً شرعية كمن يظن أن مصلحة  (بقاء) الدعوة ترادف (بقاؤه) ، فتتداخل مصالح النفس وسلامتها مع مصالح  الدعوة ، فتتضفى على الأشخاص قداسة المناهج ، وتختل الموازين وتفسد  الخيارات..

القاعدة الرابعة : أن المصلحة الشرعية لا تعارض نصوص الوحي أو تفوتها:

والنص من حيث دلالته على معناه وحكمه نوعان: قطعي وظني:

1- النص القطعي: وهو  النص قطعي الثبوت والدلالة ، والقطعي الثبوت هو المقطوع بنسبته إلى  صاحبه،وهي تشمل القرآن والسنة المتواترة ،وأما (القطعي الدلالة هو ما دل  على معنى متعين فهمه منه ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه،  مثل قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ  يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ})([6])

فالمصلحة  المعتبرة شرعاً لا تتعارض مع النص القطعي لأن ذلك يؤول حتمًا إلى تقرير  التعارض بين القطعيات الشرعية،وهذا اتهام للشرع بالتناقض والنقص والتقصير  ..

وقد  عقد ابن القيم الجوزية فصلا في إعلام الموقعين لتحريم الإفتاء والحكم في  دين الله بما يخالف النصوص وسقوط الإجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر  إجماع العلماء على ذلك.

2-أما النص الظني: (فهو  ما دل على معني ولكن يحتمل أن يؤول ويصرف عن هذا المعنى ويراد منه معني  غيره مثل قوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ  ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ})([7]) ، فيمكن  في إطار المعاني التي يحتملها أن نرجح معناً على الآخر إذا عضضته المصلحة  ولا يعني ذلك أننا نعارض النص بالمصلحة وإنما هو أخد بأحد دلالات النص  لإستحالة الجمع وهو أمر مقرر عند الأصوليين أما معارضة جميع مدلولات النص  التي يحتملها بمصلحة ما فهذا لا يجوز لأنه (أخذ بالإجتهاد في مورد النص)  وهو في ذلك كمعارضة النص القطعي بالمصلحة تماما، مثال ذلك معارضة مدلول  كلمة قرء الذي هو إما الحيض أوالطهر بمعنى آخر خارج عنهما بدعوى المصلحة.. يقول  الشنقيطي في المذكرة : (لا يقع تعارض بين قطعيين إلا إذا كان أحدهما  ناسخاً للآخر أو مخصصاً له لأن كل قطعي يفيد العلم والعمل فإذا تعارضا  تناقضا والشريعة لا تتناقض.

ولا بين قطعي وظني، لأن الظني لا يقاوم القطعي بل يقدم القطعي عليه ما لم  يكن مخصصاً له فيكون من باب تخصيص العام كما تقدم فلا يترك الظني لوجود  القطعي حينئذ) ..

يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : ( لا يمكن أن توجد مصلحة حقيقية تصادم نصاً أو إجماعاً أو قياساً )

ويقول ابن القيم – رحمه الله- : « الرأي الباطل أنواع: أحدها الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فسادُه وبطلانُه.  ولا تحل الفتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع من تأويل وتقليد»[8]

ومن هنا يظهر الخلط الواضح الذي يقع فيه من يتوهم أن اعتبار المصالح لأنه (أصل كلي) يمكن أن يعارض النصوص الجزئية ،وهو  المسلك الذي حذر منه الإمام الشاطبي – رحمه الله – فقال : (وكما أن من أخذ  بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه وبيان  ذلك أن تلقى العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها فالكلي  من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود فى  الخارج وإنما هو مضمن فى الجزئيات حسبما تقرر فى المعقولات فإذا الوقوف مع  الكلي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم  بالجزئي والجزئي هو مظهر العلم به)

ولابد  – كذلك – من التنبيه على أن ما يقوم به البعض من تضخيم لباب (المصالح) ،  والتعلل لكل مخالفة صريحة لنصوص الوحي وأوامر الشرع أنها من ترجيح المصالح  (الموهومة) فهو أشبه ما يكون بقول (الطوفي) الشاذ بتقديم المصالح على  النصوص والإجماع،وهو نفس القول الذي يحلو للعلمانيين تبرير تعطيل للشريعة  وتنحيتها به.

القاعدة الخامسة: المصلحة الشرعية لا تعارض إجماعاً قطعياً:

فالإجماع  إما قطعي وإما ظني ، فأما الإجماع القطعي فهو ما يتوفر فيه ثلاثة شروط :أن  ينقل تواتراً قولاً أو فعلاً ، يقطع فيه بانتفاء المخالف ، أن يكون مستنده  نص من الكتاب والسنة، أما الإجماع الظني ومنه السكوتي هو ما لم يقطع فيه  بانتفاء المخالف ، فالقطعي لا يجوز للمصلحة الظنية أن تتعارض معه لأنها  مظنونة فلا تسمو الى درجته لتتعارض معه أوتقدم عليه،أما إذا كان الإجماع  ظنيا كالإجماع السكوتي عند جمهور العلماء فإنه يمكن تعديله وتغييره بموجب  المصلحة.

القاعدة السادسة: المصالح المعتبرة لا تتعارض مع مصلحة أهم منها أومساوية لها :

وهنا ثلاث مسائل ذكرها الإمام الشاطبي في غاية الأهمية ، وهذا نص كلامه – رحمه الله – بتصرفٍ يسير[9]:

المسألة الأولى : تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة  أقسام أحدها أن تكون ضرورية والثاني أن تكون حاجية والثالث أن تكون  تحسينية :

1- الضرورية  :  فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم  تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت  النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.

والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعتها من جانب الوجود والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم..

– فأصول العبادات راجعة إلى حفظ الدين من جانب الوجود كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبه ذلك

– والعادات  راجعة إلى حفظ النفس والعقل من جانب الوجود أيضا كتناول المأكولات  والمشروبات والملبوسات والمسكونات وما أشبه ذلك والمعاملات راجعة إلى حفظ  النسل والمال من جانب الوجود وإلى حفظ النفس والعقل أيضا لكن بواسطة  العادات والجنايات ويجمعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ترجع إلى حفظ  الجميع من جانب العدم..

[فالضروريات خمسة هي حفظ :الدين،النفس ،العقل،النسل،المال]

2- الحاجيات فمعناها  أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج  والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب،فإذا لم تراع،دخل على المكلفين -على الجملة-  الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح  العامة وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.

3- التحسينيات، فمعناها الأخذ  بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول  الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان.

المسألة الثانية: كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية فأما الأولى فنحو التماثل في  القصاص فإنه لا تدعو إليه ضرورة ولا تظهر فيه شدة حاجة ولكنه تكميلي  (…..) ذلك ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصل المصالح ..

المسألة الثالثة :كل تكملة فلها من حيث هي تكملة بشرط وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها ، فلا يصح اشتراطها عند ذلك لوجهين: أحدهما : أن في إبطال الأصل إبطال التكملة لأن التكملة مع ما كملته كالصفة  مع الموصوف فإذا كان اعتبار الصفة يؤدي إلى ارتفاع الموصوف لزم من ذلك  ارتفاع الصفة أيضا فاعتبار هذه التكملة على هذا الوجه مؤد إلى عدم اعتبارها  وهذا محال لا يتصور وإذا لم يتصور لم تعتبر التكملة واعتبر الأصل من  غيرمزيد والثاني : أنا لو قدرنا تقديرا أن المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما من التفاوت .

وبيان  ذلك أن حفظ المهجة مهم كلى وحفظ المروءات مستحسن فحرمت النجاسات حفظا  للمروءات وإجراء لأهلها على محاسن العادات فإن دعت الضرورة إلى إحياء  المهجة بتناول النجس كان تناوله أولى(…..)وكذلك الجهاد مع ولاة الجور قال  العلماء بجوازه قال مالك لو ترك ذلك لكان ضررا على المسلمين فالجهاد ضروري  والوالي فيه ضروري والعدالة فيه مكملة للضرورة والمكمل إذا عاد للأصل  بالإبطال لم يعتبر ولذلك جاء الأمر بالجهاد مع ولاة الجور عن النبي ..

ولا  عجب بعد هذا النقل النفيس للإمام الشاطبي أن نجد الشيخ العلامة محمد أمين  الشنقيطي ينص على أن المقصود بـ (درء المفاسد) هو الضروريات ، وأن المقصود  بـ (جلب المصالح) هو الحاجيات …

فأين هذا الضبط والتأصيل من الفهم الفاسد عند البعض بجواز تقديم بعض المصالح (المظنونة) على مصلحة حفظ الدين،استناداً على فهم معوج لنصوص الشريعة …؟!

القاعدة السابعة : المصالح المعتمدة هي المصالح الكلية :
ينقل  – ذلك – الرازي عن الغزالي فيقول :(ومثاله أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من  أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا واستولوا على دار الإسلام وقتلوا  كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما لم يذنب وهذا لا عهد به في  الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون  الأسارى فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ كل المسلمين  أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد .. قال: وإنما اعتبرنا هذه المصلحة لاشتمالها على ثلاثة أوصاف وهى أنها ضرورية قطعية كلية واحترزنا بقولنا ضرورية عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة أو التتمة وبقولنا  قطعية عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا إذا لم نقصد الترس فإن ها هنا  لا يجوز القصد إلى الترس وكذلك قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز لأنا لا  نقطع بأنه يصير ذلك سببا للنجاة وبقولنا كلية عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رمي الترس إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل المسلمين وكذا إذا كان جماعة في سفينة ولو طرحوا واحدا لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم  فها هنا لا يجوز لأن ذلك ليس أمرا كليا فهذا محصل ما قاله الغزالي رحمه  الله)فاشترط  العلماء تقديم المصلحة العامة على الخاصة (إذا كانتا في رتبةٍ واحدة) ،  فلا يصح لكل (مجتهد) أن يقدم مصلحته الخاصة على المصلحة العامة ، وهل هذا  المسلك إلا التمحور حول الذات ومصالحها ؟!..

القاعدة  الثامنة: “قاعدة سد الذرائع “:

فالعمل قد يكون في حد ذاته مصلحة ، لكنه يلحق بالمفاسد لما  يترتب عليه من المفاسد تفوق تلك المصلحة ، وهذا ما يسميه أهل العلم  بـ”قاعدة سد الذرائع ”

والذريعة هي الوسيلة والطريق إلى الشيء سواء كان مفسدة أو مصلحة قولاً أو  فعلاً إلا أنه غلب إطلاق (الذرائع) على الوسائل المفضية إلى المفاسد. فإن كانت الوسائل المفضية إلى المفاسد محرمة فاسدة بذاتها فلا خلاف في تحريمها ، أما الأفعال المباحة المفضية إلى المفاسد فهي أنواع: الأول: ما كان إفضاؤه إلى المفسدة نادراً أو قليلاً فتكون المصلحة راجحة. الثاني:ما كان إفضاؤه إلى المفسدة كثيراً فمفسدته أرجح الثالث: ما يؤدي إلى المفسدة لاستعماله لغير ما وضع له كالزواج بغرض التحليل ، والمفسدة هنا لا تكون إلا راجحة

يقول  ابن القيم رحمه الله: (لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطُرُق  تُفْضِي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها معتبرة بها، فوسائل  المحرمات والمعاصي في كراهيتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها  وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقُرُبَات في محبتها والإذن فيها بحسب  إفضائها إلى غايتها؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه  مقصودُ قصدَ الغاياتِ، وهي مقصودة قصد الوسائل)

القاعدة التاسعة: المصلحة المعتبرة شرعاً لا تخالف قطعيات الشرعية :

فالمصلحة  المعتبرة شرعاً لا تدخل في أمور العقيدة ولا تثبت عبادة جديدة أو ركن أو  شرط لعبادة شرعية ، ولا تدخل في المقدرات الشرعية زيادة أو نقصاً كالديات  والمواريث .

القاعدة العاشرة : أن المصالح المعتبرة شرعاً هي المصالح الغالبة في حكم الاعتبار:

فكما قال ابن تيمية فالمصلحة المحضة تكاد تكون معدومة. قال  الشاطبي: (فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها – أي مقارنتها- مع  المفسدة في حكم الاعتبار فهي المقصودة شرعاً ولتحصيلها وقع الطلب على  العباد، وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم  الاعتبار فرفعها هو المقصود شرعاً ولأجلها وقع النهي). قال  ابن القيم: (فالأعمال إما أن تشتمل على مصلحة خالصة أو راجحة، وإما أن  تشتمل على مفسدة خالصة أو راجحة، وإما أن تستوي مصلحتها ومفسدتها. فهذه  أقسام خمسة: منها أربعة تأتي بها الشرائع. فتأتي بما مصلحته خالصة أو راجحة آمرة به أو مقتضية له. وما مفسدته خالصة أو راجحة فحكمها فيه النهي عنه وطلب إعدامه. فتأتي بتحصيل المصلحة الخالصة والراجحة أو تكميلها بحسب الإمكان، وتعطيل المفسدة الخالصة أو الراجحة أو تقليلها بحسب الإمكان. فمدار الشرائع والديانات على هذه الأقسام الأربعة)([10]).

ويجدرالإشارة  –هنا-إلى أن التغليب بين المصالح والموازنة بينها ، ليس متروكاً لما يراه  المرء وإنما هو مقيد بما ذكرناه من قواعد  وما سنذكره– إن شاء الله – من  ضوابط ، وإلا تدخلت أهواء النفس فس الترجيح وصار الأمر خبط عشواء..

ونختم ما ذكرناه من قواعد بكلام نفيسٍ للشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان في (شروط العمل بالمصلحة المرسلة):

(ذكر المالكية – وهم أكثر  الفقهاء أخذاً بالمصالح المرسلة – شروطاً لا بد من توافرها في المصلحة  المرسلة ، لإمكان الاستناد إليها والاعتماد عليها ، وهذه الشروط هي :

أولاً: الملائمة:  أي أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع ، فلا تخالف أصلاً من أصوله، ولا  تنافي دليلاً من أحكامه ، بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها ،  أو قريبة منها ليست غريبة عنها .

ثانياً: أن تكون معقولة بذاتها بحيث لو عُرضت على العقول السليمة لتلقينها بالقبول.

ثالثاً: أن يكون الأخذ بها لحفظ ضروري، أو لرفع حرج، لأن الله تعالى يقول : [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]

وهذه الشروط في الواقع ، هي ضوابط للمصلحة المرسلة تبعدها عن مزالق الهوى ونزوات النفس ، ولكن ينبغي أن يُضاف إليها شرطان آخران هما :

– أن تكون المصلحة التي تترتب على تشريع الحكم مصلحة حقيقية لا وهمية.

– وأن تكون المصلحة عامة لا خاصة ، أي أن يوضع الحكم لمصلحة عموم الناس لا لمصلحة فرد معين أو فئة معينة.)

ومما سبق يتضح  مدى الخلط الذي يحصل من البعض عند الكلام في باب المصالح والمفاسد ، فترى  البعض يستدل بأدلة الإكراه (وهو من عوارض الأهلية) – وما اعتبره الشرع فيها  من مصالح ومفاسد تقدر بقدرها على حسب درجة الإكراه – على أحوالٍ جاءت نصوص  الشرع فيها بنقيض ما يستدل عليه ، ويتناسى الفارق البسيط والمؤثر بين  الحالتين (وهو النص الذي لا تعتبر المصلحة إذا خالفته) فالشرع الذي أجاز  قول كلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان في حالة الإكراه هو من ندب إلى  بذلها لإعلاء كلمة الله في الجهاد، فأين الدوران مع نصوص الشرع ومقاصده من  الالتفاف حوله؟!

والعجيب أن تجده يبيح  التلفظ بالباطل لمصلحة (خاصة) بإحدى القنوات (ترجيحاً لما يراه مجتهد من  مصلحة)،بينما المصالح المعتبرة شرعاً يجب أن تكون قطعية ضرورية (أو حاجية)  كلية ، وتقدر بضوابط وشروطٍ لا بأهواءٍ وظنونٍ!!

ثانياً : كيف نوازن بين المصالح عند تعارضها ؟!([11]):
وهنا يثار سؤال:  وماذا إذا تعارضت هذه المصالح (المعتبرة) مع مثيلاتها ؟
وماذا إذا اجتمعت مفسدة ومصلحة في عمل ؟
كيف نعرف أن هذه المصلحة هي الغالبة وأن مقصود الشرع منها أولى من غيرها ؟ أم أن تقدير المصالح والمفاسد ( كما يشيع البعض) متروك لكل من يدعي التقدير ؟!
لقد ضبط العلماء هذه الموازنة بين المصالح ، ولاتساع هذا الباب نورد بعض ما جاء في ضوابط الموازنة بين المصالح ..

الضابط الأول : الإعمال أولى من الإهمال:فإن  أمكن تحصيل المصلحتين جميعاً فهو الأولى، يقول ابن القيم: (فإن الشريعة  مبناها على تحصيل المصالح قدر الإمكان، وأن لا يفوّت منها شيء، فإن أمكن  تحصيلها كلها حُصّلت، وإن لم يكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض، قُدّم  أكملها وأهمها وأشدها طلباً للشارع). ومن ذلك استحباب التنويع في أداء  العبادات التي وردت على عدة أوجه: كأذكار الصلوات ، والوتر ، والتشهد ،  وصفات التورك ، وأدعية الاستفتاح .. فإذا لم يمكن الجمع بين المصالح صرنا إلى الترجيح بينها ..

الضابط الثاني: مراعاة الترتيب بين المصالح حسب الأهمية والترتيب :

– فالضروريات مقدمة على الحاجيات عند تعارضهما والحاجيات مقدمة على التحسينيات عند تعارضهما.. – فإن  تساوت الرتب كأن يكون كلاهما من الضروريات فيقدم الضروري المقصود لحفظ  الدين على بقية الضروريات الأربع الأخرى ، ثم يقدم المتعلق بحفظ النفس ثم  العقل ثم النسل ثم المال. – فإن كان التعارض بين مصلحتين متعلقتين بضروريين من نفس النوع انتقلنا إلى الترجيح بالعموم والشمول

الضابط الثالث: المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة (إذا تساوت الرتب):

وسبق كلام الغزالي فيها ، ومن أمثلة ذلك: تحريم الاحتكار – مسألة التترس –  تقديم حفظ عقول الناس من الزيغ على مصلحة الفرد في إبداء حرية الرأي عند  تعارضهما

الضابط الرابع: المصلحة القطعية مقدمة على المصلحة الظنية، وبناء على ذلك :

– فلو تعارضت مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة إحداهما قطعية والأخرى ظنية فتقدم القطعية . والظن  الغالب هنا يقوم مقام القطع ، ومن الأمثلة: إذا لم يجد المصلي ماءً في أول  الوقت فإذا كان يقطع أو يغلب على ظنه أنه سيجد ماء فالأفضل الانتظار، أما  إذا كان يظن أنه سيحصل على الماء ولا يجزم بحصول ذلك فالأفضل التيمم  والصلاة في أول الوقت، فتقدم مصلحة إقامة الصلاة في وقتها قطعية على مصلحة  الوضوء التي هي ظنية.

الضابط الخامس: المصلحة المتعلقة بذات العمل مقدمة على المصلحة المتعلقة بزمانه أو مكانه،ومن أمثلة ذلك:

– تحصيل  الصف الأول-للرجال- مصلحة مطلوبة شرعاً لكن إذا ترتب على ذلك تفويت الخشوع  بسبب الزحام فالأفضل للمصلي أن يتأخر، فهنا تعارضت مصلحة متعلقة بالمكان  مع مصلحة متعلقة بالعمل ذاته.

– الأفضل للإنسان أن يطوف قريباً من الكعبة ما لم يكن هناك زحام يخل بالخشوع فيكون البعد أفضل .الضابط السادس: المصلحة المقصودة مقدمة على المصلحة الوسيلة أو(المقاصد مقدمة على الوسائل).ولقد ذكر بعض أهل العلم قاعدة أُخرى -هنا – ، وهي: أن  ما كان محرماً تحريم مقاصد فإنه لا يُباح إلا عند الضرورة، وما كان محرماً  تحريم وسائل فإنه يُباح عند الحاجة أو عند المصلحة الراجحة. و الضرورة هنا هي الحالة التي يخشى الإنسان على نفسه فيها الهلاك أو تلف عضو من أعضائه . أما الحاجة فهي أن يقع الإنسان في حرج ومشقة دون أن يخشى على نفسه الهلاك ، ومن أمثلة ذلك: 1- جواز لبس الحرير للرجال عند الحاجة، فإن لبس الحرير محرم تحريم وسائل لأنه  يؤدي إلى الكبر، وقد أذن النبي لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام  بلبسه لحكة كانت بهما. 2- لا يجوز استعمال الذهب إلا عند الضرورة لكونه محرما ًتحريم مقاصد .ومن هنا يتبين الخلط الذي وقع فيه البعض عندما أجاز ما هو محرم تحريم مقاصد (كبعض قول الباطل) لمجرد الحاجة ليس إلا ..

الضابط السابع: المصلحة المتعدية مقدمة على المصلحة القاصرة:

والمقصود بالمصلحة  المتعدية أي التي تتعدى فاعلها إلى غيره ، أما المصلحة القاصرة فهي التي  لاتتجاوز في نفعها فاعلها . كطلب العلم والدعوة وحسن الخلق..

الضابط الثامن: أداء المصلحة المقيدة في وقتها أفضل من المصلحة المطلقة :

ذلك  أن المصلحة قد تقيد بحال او بوقت أو بشخص ، فيكون أداؤها في ذلك الوقت  أفضل من المصلحة المطلقة ، وإن كانت المصلحة المطلقة أفضل منها عند الإطلاق  ، ولهذا يقول أهل العلم :قد يعتري المفضول ما يجعله أفضل من الفاضل .ومن  ذلك : أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل ، لكن أداء الأذكار  المقيدة في حينها أفضل من قراءة القرآن في ذلك الوقت ، كأذكار أدبار  الصلوات ومتابعة المؤذن ونحو ذلك .

الضابط التاسع: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:

– وهو  ما يندرج تحته قول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – : (وإن تكافأ  المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما . فتارة يصلح الأمر  ؛ وتارة يصلح النهي ؛ وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف  والمنكر متلازمين ؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة وأما من جهة النوع  فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا . وفي الفاعل الواحد والطائفة  الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها ؛ بحيث  لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن  المنكر حصول أنكر منه أو فوات معروف أرجح منه . وإذا اشتبه الأمر استبان  المؤمن حتى يتبين له الحق ؛ فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية)

– وانتبه لقوله – رحمه الله – (أو حصول منكرٍ فوقه) ليتضح أن كلام شيخ الإسلام ليس على عمومه بل هو منضبط بما ذكرناه من قبل من ضوابط ، ولذلك نجد أن العلماء قيدوا هذا القاعدة بـ (تساوي الرتب)

– وسبق تفسير الإمام الشنقيطي لـ (درء المفاسد) بحفظ الضروريات ، و(جلب المصالح) بحفظ الحاجيات.الضابط العاشر: قاعدة ارتكاب أخف الضررين :- وهو  ما يندرج تحته قول شيخ الإسلام : (فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم  أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد  تارك واجب في الحقيقة . وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا  بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة وإن سمي ذلك  ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر . ويقال في مثل هذا  ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة ؛ أو لدفع ما هو  أحرم)- وهذه  القاعدة مقيدة ألا يكون ممكناً تجنب الوقوع في أحد الضررين ، أما إذا أمكن  تجنب الوقوع في أحدهما فنرجع للأصل الذي يجري تحت قاعدتي : (الضرر يُزال) ، (الضرر لا يزال بالضرر)..

– وهذه  القاعدة لا يصح فهمها بانفرداها دون ما سبق من ضوابط توضح (الآكد) من  (الأخف) وإلا فإن شيخ الإسلام في بعدما ذكر هذا الكلام قال: (والمتوسطون  الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة أو  يتبين لهم فلا يجدون من يعينهم العمل بالحسنات وترك السيئات؛ لكون الأهواء  قارنت الآراء)  فذكر أن مقارنة الأهواء بالآراء من أسباب الاختلاف  والاختلاط ووقوع الاشتباه ، فعندها يحاول كل فريقٍ ترجيح ما يوافق هواه..

– ولذا  ينبغي التأكيد على أن هذا الضابط والذي سبق إذا دخل الهوى فيه حدث شرٌ  عظيم إذ هي قواعد تجيز الوقوع في أخف الضررين ، فتجد عندها من يتفتح  الأبواب للوقوع في مفسدة شرعية (يقينية) تجنباً لمفسدة (دنيوية) أو مفسدة  (شرعية ظنية) ، وقد يؤدي إلى الوقوع في مفسدة (عامة) لتجنب الوقوع في مفسدة  (خاصة) ، وقد يؤدي إلى الوقوع في مفسدة تضر بأصل الدين أو غيرها من  الضروريات لأمر حاجي أو تحسيني ، وغير ذلك من الفساد العظيم ..

– وكل  هذا وغيره واردٌ حدوثه – كذلك – عندما يساء فهم كلام العلماء ويتم تحميله  ما لا يحتمل، بل ويتم تقويلهم ما لم يقولوا ، كمن استدل بكلام شيخ الإسلام  في مداراة المتسلط المتجبر القائم بأمور كالجهاد أو العلم على جواز تصديره  للجهاد!!!!!!

وأختم بجملة من كلام لابن دقيق العيد: ( لست أنكر على من اعتبر أصل المصالح، لكن الاسترسال فيها، وتحقيقها محتاج إلى نظر سديد…)..

أو بما بدأت به من نقلٍ نفيس للشيخ عطية سالم : (ومكمن  الخطر في ادعاء المصلحة لأنه ادعاء عام، وكل يدعيه لبحثه فيما يذهب  إليه… ولن يذهب مجتهد قط إلى حكم في مسألة لا نص فيها إلا وادعى أنه ذهب  لتحقيق المصلحة..ولكن، أي المصالح يعنون….)؟!

فليس الأمر في اعتبار المصالح ولكن الســؤال:  أي المصالح يعنون..؟!
هذا والله أعلى وأعلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
…………………………………………………………………………………….

بعض المراجع التي استفدت منها:
– الموافقات للشاطبي
– تهذيب الموافقات للجيزاني
– المحصول للرازي
-المصالح المرسلة للشنقيطي
– مجموع فتاوى شيخ الإسلام
– معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة
– ضوابط المصلحة للبوطي
– الاجتهاد المقاصدي – سلسلة كتب الأمة
– مقاصد الشريعة للدكتور يوسف الشبيلي
– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – د.خالد السبت
– المذكرة في أصول الفقه
– الوجيز في أصول الفقه
– الواضح في أصول الفقه
– أوضح العبارات في شرح المحلي مع الورقات
– ضوابط اعتبار المقاصد

————————————————————————————————————-

الهوامش:

[1] ) الموافقات: 2 / 4
[2] ) إعلام الموقعين:  3/5.

[3])  انظر:”مجموع الفتاوى”(11/344، 345، 13/96)، و”مفتاح دار السعادة”  (2/14،22)، و”إعلام الموقعين”(3/3) (نقلاً عن معالم أصول الفقه عند أهل  السنة والجماعة)(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميّة، 11 / 342 ـ 345.

[5] ) المصلحة العامة من منظور إسلامي: ص81
(6) علم أصول الفقه – عبد الوهاب خلاف
(7) علم أصول الفقه- عبد الوهاب خلاف
[8] ) إعلام الموقعين: 1/61.
[9] ) الموافقات: 2/6.

([10])  “مفتاح دار السعادة (2/14). وقد ذكر ابن القيم في هذا المقام مسألتين:  الأولى: في وجود المصلحة الخالصة والمفسدة الخالصة، انتهى فيها إلى قوله:  “وفصل الخطاب في المسألة إذا أريد بالمصلحة الخالصة أنها في نفسها خالصة من  المفسدة لا يشوبها مفسدة فلا ريب في وجودها، وإن أريد بها المصلحة التي لا  يشوبها مشقة ولا أذى في طريقها والوسيلة إليها ولا في ذاتها فليست موجودة  بهذا الاعتبار). والمسألة الثانية: في وجود ما تساوت مصلحته ومفسدته، اختار  فيها عدم وجود هذا القسم في الشريعة وإن حصره التقسيم، ذلك لأن الشيء إما  أن يكون حصوله أولى بالفاعل وهو راجح المصلحة، وإما أن يكون عدمه أولى به  وهو راجح المفسدة.
([11]) راجع مقاصد الشريعة – د.يوسف الشبيلي (بتصرف) ، وضوابط المصلحة للبوطي

التعليقات