حقيقة المراجعات الفكرية.

من خصائص الفكر الجاهلي أنه خاو لا جذور له ممتدة ، ولا فروع له مثمرة “وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ”.

لذا فإن الجاهلية لا يمكنها مواجهة الإيمان في معركة الحق والبرهان ، واي جولة بينها وبينه فهى محسومة النتيجة ، والفشل المحتوم امام الايمان عاقبتها المرتقبة “أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ …..”.
وحينها تلجأ الجاهلية لأسلوب البطش الغليظ ، ومنطق القوة بدلاً عن قوة المنطق
لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنك
لِأَجْعَلَنك مِنْ الْمَسْجُونِينَ
وبرغم هذا البطش فإن الجاهلية لا تهدأ لها روع او تسكن لها نفس ما دام الايمان متجذراً في قلوب أصحابه ، وما دام سلطانها لم يملك القلوب وإن تسلط على الأجساد. فهي من جهة لا تأمن من لحظة تتفلت من يدها القيود لتحرر أجساداً حوت قلوباً حية ، ومن جهة أخري فإنها لا تطيق رؤية الإيمان بل حتى استشعار أنفاسه ، حيث يذكرها بفساد منبتها وخبث نفسها ونقص حالها ، فلا ترضي إلا ان تزعزع المؤمنين عن دينهم ، وتفتنهم عن عقيدتهم “وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ”.
ولأنها ضعيفة الحجة واهية البرهان لا يمكنها تغيير عقائد المؤمنين إلا في أجواء الضغط النفسي والانهاك البدني والتضييق المجتمعي ، وهو ما تسميه الجاهلية بـ “المراجعات الفكرية”. وهذه المراجعات لا تأتي ثمرتها المرجوة عندهم إلا تحت سياط القهر ولهيب الإرهاب “لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا”.

إن حقيقة هذه المراجعات مبنية على تحطيم الإرادة وإنهاك النفس وتيئيس الإنسان وسد منافذ الأمل وطرق الخروج من الازمة ووضع المرء أمام مصير مجهول وأفق لا يلوح فيه إلا العذاب والإحباط والضياع. وبعدها تفتح الجاهلية مسارات للخروج من المأزق قد حددتها سلفاً ، وتفتح مخارج للنجاة ليس فيها إلا الهلاك الحقيقي ، وتضطر اهل الحق إلى خيارات تريدها وتلجئهم إلى طرق وسبل ترتضيها فتخيرهم ما بين لهيب السياط واستمرار مسلسل العذاب والعناء وبين ان ينتكسوا عن سبيلهم ويضلوا عن مبادئهم ويرتدوا على أعقابهم.
إن عدنا قليلاً إلى المحنة الناصرية وتجربتها في مسألة المراجعات الفكرية وتطور ذلك الأسلوب أيام مبارك وما سمي وقتها “بالمبادرات”. وجدنا أنه من يدخل هذا المسالك ويقبل بها لا يخرج مما وقع عليه من محنة إلا حطاماً آدمياً وبقايا إنسانية نزعت منها الروح ، ولم يتبقى فيها إلا أجساد متهالكة وأبدان منهكة ونفوس مكسورة محطمة. في حين نجد من رفضها قد حافظ على جوهر بقائه ومقومات حياته أي المبادئ.

بل العجيب أن من قبل المبادرات كطوق نجاه للخروج من المحنة والسجن ، ولم يخرج إلا بعد ان فقد كل شيء ، وجُرد من كل شيء ، فكان خروجه وبقاؤه سواء. في حين أن من رفض المبادرات لم يلبث بعد في المحنة والسجن طويلاً بل سرعان ما خرج هو الآخر ، لكنه خروج ليس كخروج من سبق ، فقد خرج مرفوع الرأس مستعلياً منتصراً.

إن المراجعات الفكرية الحقيقية وترشيد التجارب وإعادة تقييمها وتصحيحها تحتاج لبيئة صالحة ومحيط صحي وأجواء تتوفر فيها الحرية لتنتج مراجعات صحيحة وأفكار مثمرة.
ولهذا نزلت الرسالة الخاتمة في بيئة العرب التي تتسم بالنقاء الفطري والحرية بعيداً عن الاستعباد والاستبداد في الممالك والامبراطوريات. وكذا كانت أجواء فتره ما بعد 25 يناير بيئة مناسبة للحركة الإسلامية لترشيد فكرتها والنظر في منطلقاتها ومراجعة مساراتها.
وخلاصة القول فإن من الخطأ الجسيم عقد مراجعات فكرية تحت طرف غير صحي او ضاغط كأجواء السجن او التهديد أو الإرهاب. وإن مراجعات في هذه البيئة لن تُخرج إلا أفكار مشوهة ونتائج منحرفة.

 


التعليقات