عفوا .. لن ينتظركم الزمن

إن الذي يتأخر ثلاث دقائق عن موعد قطار ينطلق في موعده، ربما لن يكون قد تأخر وقتا طويلا.. لكنه بالتأكيد قد فاته القطار.

فأحداث الزمن الكبرى، ولحظات التغيير المفصلية، لها موعدها المقدر. ومن لا يحسن استشرافها، ولا يسعى لاستثمار موجتها، تمر عليه وتغمره، ويفوته مراده فيها.

وهؤلاء صنفان :

الصنف الأول: صاحب الجمود في تصوره لطريقه إلى هدفه. فهو لا يكاد يلتفت إلى الفرص التي لا تتكر كثيرا، ويفوته من تنوعات الواقع ما يثبت أن تفاصيل الطرق كثيرة ومتنوعة. ويفتقد مرونة التعامل مع تلكم المعطيات.

الصنف الثاني: صاحب الجمود في تصوره للواقع ومعادلاته. فهو لا يدرك حركة الحياة المحيطة به، والتي تثمر تغييرا في معادلات القوة والتأثير. ولا يدرك أن هذا التغيير نفسه هو من سمت الحراك الإنساني عبر تاريخه الممتد. فيظل أسير وَهْمٍ ربما كان واقعا.. يوما ما.

وما هكذا كان قدوة المسلمين – صلى الله عليه وسلم -.

فقد دعا في مكة سرا وجهرا، وحاول أن ينقل دعوته إلى الطائف، واستفاد من حماية أهله الذين كانوا مشركين، وطلب النصرة من القبائل في الحج.. وهاجر أصحابه هجرتين إلى مكانين مختلفين.. بل هاجر -صلى الله عليه وسلم– من بلد المشركين وكان دليله مشركا.. وقاتل حينا، وسالم آخر.. وتألف قلوبا ضعيفة، وتجاوز عن نفاق معلوم.. عفا مرات، كما عاقب بالقتل وبالإجلاء في غيرها.. كل ذلك بمرونة في الطريق مع وضوح وثبات للهدف.

وبتغير واقع المدينة بعد بعاث كان تأهلها لاستقبال الإسلام.. وباتساع استقبالها للإسلام كانت الهجرة النبوية إليها.. وبتغير موازين القوة بعد بدر بدأ إجلاء اليهود.. وبتغير الواقع بعد الخندق كانت الحديبية فـ”اليوم نغزوهم ولا يغزوننا”.. وبتغير شكل العلاقات في الواقع بعد الحديبية كانت مراسلات الدعوة وخيبر ثم فتح مكة.. في مرونة تدرك تغيرات الواقع وتستثمرها بتغيير نحو التعامل الملائم.

فارتباط الحركات التغييرية بهاتين المرونتين عبر التاريخ، مما هو أكثر وأوضح من أن يُذكر هنا. وهذا في التاريخين الإنساني العام والإسلامي الخاص.

أما الذين ابتلوا بالجمود، ويزينونه لغيرهم تحت دعاوى متعددة، ويتوهمون أن الزمن سيتوقف لينتظر حركتهم التي تبدأ من الصفر، لتنطلق في خط ذهني يتصورون أنه الوحيد في صوابه، مع أن مراحله الواقعية لا تسير كما يتخيلون، فهؤلاء سيظلون دوما يلهثون ولا يصلون.

لأن الزمن لا يتوقف إلا لمن يوازيه ويسابقه، فمثل هذا هو الذي يقول للشمس: “إنك مأمورة.. وأنا مأمور.. اللهم احبسها علينا”.. فيقف له الزمن.. ويسبق الزمن.. بفعله المغير للواقع.


التعليقات