ليس لنا القدرة على فرض رؤيتنا الشرعية لممارسة السياسة فإننا نضع الرؤية لتمثل الشيء الذي نطمح إلى تحقيقه ونعد ما نقوم به في ظروفنا المخالفة للوضع السياسي الشرعي بغية الوصول لما نريد من باب ما يطلق عليه الأحكام الانتقالية، لأن التحول من وضع فاسد لوضع صالح كامل الصلاح لا يمكن حدوثه أو تحقيقه دفعة واحدة في غالب الأحوال وإنما عبر الانتقال إلى الهدف بخطوات مدروسة ثابتة فيها نوع من التدرج أو التريث، ولعل فيما حدث من انتقال من أوضاع فاسدة إلى وضع شرعي صحيح في أول البعثة النبوية ما يكون شاهدا لهذا المسلك فمثلا الانتقال من إباحة الخمر الذي كان سائدا في المجتمع أول البعثة إلى تحريمها تحريما باتا لم يتم بنقلة واحدة وإنما عبر خطوات بلغت في مداها الزمني قرابة الخمسة عشر عاما وكذلك الربا أيضا انتقل من الإباحة إلى التحريم البات في عديد من السنوات فهذه الأمور الفاسدة كانت متحكمة في المجتمع وكان الانتقال عنها دفعة واحدة يمكن أن يحدث هزة في المجتمع لا تحمد عقباها كما قالت السيدة عائشة “إنما نزل أول ما نزل منه (أي القرآن) سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا” ، ولابن تيمية رحمه الله كلام في غاية النفاسة في المجلد رقم 20 من الفتاوى من ص 57 إلى 61 خلاصته يجوز ترك الواجب لعذر وفعل المحرم إما للمصلحة الراجحة وإما للضرورة وإما لدفع ما هو أشد تحريما ومن ثم فإنا نقول إنه في الفترة التي ننتقل فيها من الفساد إلى الصلاح الكامل أنه لا يمكن الانتقال دفعة واحدة أو القفز قفزة هائلة نعبر بها من وضع إلى وضع مخالف له تماما ومن ثم فإنه قد يكون هناك اضطرار لترك بعض الواجب أو الوقوع في بعض المحرم، وهذا في الحقيقة لا يعد وقوعا في الحرام أو تركا للواجب فإنه وإن كان حراما من حيث الأصل والإطلاق فإنه لا يعد كذلك من حيث عدم القدرة على الامتثال إما علما وإما قدرة وتمكنا، وإذا كان هذا التصرف مما يمكن أن نجد له مسوغا في الشرع حسبما تقدم تقريره لكن جوازه مرهون بأمرين:
1-أن تكون المخالفة في حدود الشريعة ولا تتجاوزها إلى العقيدة
2-أن يكون هناك ظن راجح بحصول ما لأجله جرت المخالفة.
ومن ثم فإن الخطوات في الانتقال من الوضع الفاسد إلى الوضع الصالح ينبغي أن يحتاط فيها حيطة شديدة حتى لا تقع فيما هو مخالف للتوحيد أو فيما ليس فيه تحقيق للمصالح المبتغاة.
الإشكالية التي تعترض طريق الإسلاميين في العمل السياسي أن الأنظمة التي توافق على العمل السياسي للإسلاميين أنظمة لا تتبنى الخيار الإسلامي ومن ثم فإن كثيرا من الأنظمة والقوانين التي تنظم ذلك لم تراع الأحكام الشرعية المتعلقة بقضايا السياسة وعليه فإن ممارسة الإسلاميين للسياسة لن تخلو من الوقوع فيما تقدم توضيحه من المحذورات، ورغم ذلك فلابد لنا من اتباع سنة الدفع كما قال تعالى: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض “ وقال في الأخرى: “لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله” فإنه من غير القيام بدفع الباطل فلن نتمكن من الوصول لتأييد الحق وإحلاله محل الباطل ومن هنا فإن علينا أن نعلن ابتداء رفضنا لأي شكل من أشكال المخالفة للشريعة وأننا ما قمنا ولا شاركنا في الممارسة السياسية المعاصرة إلا لكي نعمل على تطبيق شرع ربنا وسيادته على ما عداه من الأنظمة والقوانين وأن مشاركتنا لا تعني بحال قبولنا أو موافقتنا على ما يخالف الشريعة من النظم والقوانين.
فمن الأشياء المرفوضة غير المقبولة ابتداء وانتهاء وعلى الدوام مقولة السيادة للشعب لأنها تعني أن يكون الشعب صاحب المرجعية العليا في سن الأنظمة والقوانين أي أن الحاكمية للشعب وفي هذا مخالفة للتوحيد الذي هو أصل الدين الذي أرسل الله به المرسلين كافة وهو أن تكون الكلمة العليا في كل شيء لشرع الله كما قال تعالى: ” وكلمة الله هي العليا“، ومشاركة من يشارك من الإسلاميين لا يعني الموافقة على النص المتقدم لأن الموافقة إنما تثبت بالإقرار بصريح اللفظ وهذا ما لم يكن ولن يكون إن شاء الله تعالى ومثل هذه المادة يجب أن تحذف من أي دستور في أي بلد إسلامي وإذا كان هناك من يحاول أن يعطي تفسيرا لهذه الكلمة يغاير به ما قدمته، فإن هذا ينفعه في أنه لم يرد منها قبول الشرك، لكن الصواب أن يعبر عن المعنى الصحيح بلفظ صحيح ليس فيه دلالة على الباطل ولا يكون حمالا لأوجه من التأويل، كما ينبغي أن يكون من أول ما ينبغي على الإسلاميين فعله بعد وصولهم للحكم هو تنقية الدستور والقوانين من مثل هذه المواد، وإذا كان هناك تخوف من البعض أن يطغى عليهم الإسلاميون فلنبحث عن صياغة أخرى تضمن أمرين:
1-اتباع أحكام الشريعة وعدم معارضتها
2-طمأنة الآخرين بعدم طغيان الإسلاميين عليهم
كل ذلك بنصوص واضحة تفيد المضمون وليس بوعود أو أمنيات.
ومن الأمور التي ينبغي إلغاؤها والاتيان ببديل صالح لها المادة القانونية التي تمنع من إقامة الحزب على أساس الدين فهذا نص في غاية الفساد وهو فرض أيدلوجية على شعب بأكمله من قبل واضع المادة القانونية بدون أدنى مسوغ فينبغي إلغاؤه ووضع نص بديل له ينص فيه على حظر إقامة أي حزب على أسس أو قواعد أو أحكام تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وكون المادة في صياغتها الحالية الفاسدة لم تحل بين إقامة أحزاب ذات مرجعية إسلامية فإن هذا لا يكفي في تركها كما هي وعدم إلغائها.
وإذا انتقلنا من القوانين إلى الآليات، فأعظم هذه الآليات المتبعة آلية الانتخاب، والانتخاب معناه الاختيار والانتقاءُ؛ ومنه النُّخَبةُ، وهم الجماعة تُخْتارُ من الرجال، فتُنْتَزَعُ منهم.
واختيار من يصلح لأمر ما من بين متعددين أمر لا غبار فيه، بل ولاية أمر الناس في الشرع قائمة على الاختيار، والمشكلة التي تواجه الإسلاميين في هذا المجال هو جعل الأنظمة القائمة الاختيار حقا لجميع مواطني الدولة فيشارك في الاختيار المسلم والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل بينما الأمر في الشرع ليس كذلك وهذا الأمر لم يقرره الإسلاميون ولم يرضوا به بل هو مفروض ومن ثم فإن التعامل معه لا يعني الموافقة عليه أو الرضا أو الإقرار بل المدون في كتبهم ومقالاتهم وأحاديثهم ما هو معلوم في كتب السياسة الشرعية فيمن له حق الاختيار.
لكن ليس الحل الصواب في مثل هذه الحالة الانسحاب لأن الانسحاب لن يغير شيئا وإنما يكون فيه تدعيم لمن يعارضون الشريعة فإن الدعوة إلى انسحاب الصالحين من ذلك يعني تفريغ المجال أمام المعارضين للشريعة وأمام العوام وحينئذ لن يختاروا في غالب أمرهم إلا من كان على شاكلتهم، والرأي الشرعي أن من يقوم باختيار ولي الأمر هم أهل الحل والعقد وقد يكون تحقيق هذا دفعة واحدة متعذرا أو كالمتعذر في ظل الضعف الذي يلف بلاد المسلمين، وقد يكون مما يجوز العمل به الانتقال إلى ذلك عبر أكثر من خطوة كأن يكون الاختيار يتم على مرحلتين:
1-يتاح لكل المواطنين المشاركة في الاختيار لكن الاختيار لا يكون لشخص واحد وإنما لخمسة أشخاص مثلا
2-المرحلة الثانية تقوم لجنة مشكلة ممن ينطبق عليهم وصف أهل الحل والعقد باختيار واحد من هؤلاء الخمسة مع بيان مسوغات اختياره وتفضيله على من عداه.
وعندما تستقر الأوضاع ويألف الناس مثل ذلك ويقوم الإعلام الإسلامي بدوره في الدعاية بقوة إلى الطريق الشرعي في الاختيار مع مساعدة المشايخ والدعاة في الدروس والمحاضرات لذلك يكون الاختيار التالي عن طريق أهل الحل والعقد عندما يكون اتضح للناس معنى هذا المصطلح وصفات أهله.
وأما المجلس النيابي فإن إشكاله يتمثل في أمرين:
1-الأعضاء الذين يتكون منهم، ومنهم كما ذكرنا المسلم والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل
2-صلاحيات هذا المجلس التي تكون أحيانا بمثابة أهل الحل والعقد، وأحيانا بمثابة أهل الاجتهاد
والأصل في ذلك أن لا يشارك فيه ترشحا وانتخابا إلا المسلم الصالح الذي تمكنه قدراته من القيام بذلك العمل، وقد يكون في الفترة الانتقالية من الوضع المسمى ديمقراطية إلى الوضع الشرعي أن يقوم المسلمون باختيار المسلمين وأهل الملل الأخرى باختيار أهل ملتهم بعدد من الأعضاء مناظر للتعداد السكاني لكل فئة وبذلك نتخلص من مشاركة الذميين في اختيار المسلمين، وأن يكون لهم دور في ترجيح مرشح مسلم على آخر، ولا تكون لمقترحات أعضاء المجلس جميعا وآرائهم صفة الإلزام إلا بعد مرورها على لجنة شرعية تنظر فيها وتقر منها ما يوافق الحق وترد ما خالفه وبذلك نتخلص من دخول من ليس أهلا من الناحية الشرعية في الإلزام بالقرارات أو القوانين.
وهذا مجرد اجتهاد في هذا الباب يمكن لأحد من الناس أن يأتي بأفضل منه وأجود ومن ثم فينبغي الأخذ بالأفضل الأجود
التعليقات