“الـمُدافِعُ غالبًا خاسرٌ” هذه هي قاعدة النِّزال المادي أو الفكري، ولعل في قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد انصراف الأحزاب: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا، نَحْنُ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى هذا المعنى، فهي بشارة منه صلى الله عليه وسلم، والبشارة لا تكون إلا بالخير، فعُلِمَ أن الدِّفاع يقابله، ولهذا فإنَّ البقاء “دائمًا” في موقع الدِّفاع يؤدي إلى خسارات متعددة، ولعل الخسارة في المجال الفكري أكثر إيلامًا وتأثيرًا من الخسارة المادية، وذلك لديمومة الأثر الناتج عنها.
ولا نعني بالخسارة هنا الخسارة القاطعة الكلية، بل ربما تقتصر هذه الخسارة على نوع من الخسارة الجزئية المحدودة، كخسارة مفهوم، أو التنازل عن ثابت، وخطورة هذا النوع أنه لا يظهر بشكل صريح لكل أحد، بل ربما يكون الظاهر هو النصر بعامَّة، مع وجود هذه الخسارات الجزئية، وهذا هو مكمن الخطورة في هذا النوع، فإن الخاسر فيها لا يستشعر بخسارته، بل على العكس قد يستشعر لذة النصر، ويمجِّده الآخرون على هذا “النصر”.
ومن الواضح أن الأمثلة على هذا النوع من الخسارات أكثر من أن تُحْصَى، فلقد خسر الفلاسفة الإسلاميين في مجابهتهم للفلاسفة بالرغم من النصر الظاهر، وخسر المعتزلة في معركتهم مع الفلاسفة الإسلاميين، وخسر الأشاعرة في معركتهم مع المعتزلة، ويظهر ذلك عند التأمل فيما يُسَلِّمه كل فريق أقرب لأهل السنة لِـمَنْ يُنازله مِمَّن هو أبعد عنها.
حتى عند أهل السُّنَّة المعاصرين صارت بعض المفردات نتيجة للضغط الهجومي من الخصوم، والتَّخَنْدُق الدِّفاعي “الدائم”
حتى عند أهل السُّنَّة المعاصرين صارت بعض المفردات نتيجة للضغط الهجومي من الخصوم، والتَّخَنْدُق الدِّفاعي “الدائم؛صارت بعض المفردات كأنها سُبَّة لا يصح إلا التبرؤ منها، أو اجتنابها، أو تبريرها، فصارت مادة “ك ف ر”، ومادة “ج ه د” وأمثالهما من المواد التي يتطرق إليها الدعاة بحذر، بالرغم من أن المعنى الـمُشْكِل الذي يحاولون الفرار منه متوفر عند الخصوم ومن شايعهم، وهم لا يستشعرون الحرج من ذلك، فالكُفْر على سبيل المثال من المعاني التي لا يمكن أن تنفك عنها عقيدة أو جماعة بشرية، وإلا اضمحلت الفروق بينها وبين غيرها، ما يعني إلغاءً عمليًا لتمايزها،
فالكُفْر هو البيان التفصيلي لعلاقة (الانتماء/عدم الانتماء) للجماعة العقدية
فالكُفْر هو البيان التفصيلي لعلاقة (الانتماء/عدم الانتماء) للجماعة العقدية وهو مَبْنيٌّ على البيان الإجمالي لثوابت هذه الجماعة العقدية، وقد يأخذ اسمًا آخر إذا كان بيان هذه العلاقة في جماعة بشرية، فقد يقال فيه (الطرد)، أو (سحب الجنسية)، أو (إلغاء الرَّعَوِيَّة)، وذلك إذا خالف الفرد ثوابت تلك الجماعة البشرية التي حصل التوافق منها على مجموعة من الثوابت، أو كان لا يعترف بهذه الثوابت، أو لا تنطبق عليه، وبالرغم من الضوابط والقواعد الموضوعية التي تنظمه في الإسلام، والتي لا يرقى إليها أي تشريع سماوي أو وضعي إلا أن هذه الحساسية المفرطة في التعامل مع هذه القضية ظاهر عند الإسلاميين، بالرغم من المنهج الإقصائي عند الخصوم.
وكذلك الجهاد أصبح من الألفاظ (المحظورة) سواء كان الحديث فيها عن جهاد سلفنا، أو حتى في هذا العصر، واقتصر استعماله (بحرية) على الدروس الفقهية للكتب والمتون، فتغيرت أسماء الوزارات التي تنظم شئونه من (الجهادية) أو (الجيش) إلى (الدفاع)!! بالرغم من ضوابط هذه الشعيرة، وبالرغم – كذلك – من أن أفظع الحروب، وأكثرها دموية لم يكن المسلمون طرفا فيها، أو كانوا هم الطرف الـمُعْتَدَى عليه بوحشية.
ولم يكن الحال أفضل في لفظ (الجماعة)، فكثيرًا ما يحاول الإسلاميون الابتعاد عن استخدام هذا اللفظ، باستثناء من اتخذ من مفاصلة المجتمع اتجاهًا عامًا له، وبالتالي خرج عن ضغط ومعايير “الملائمة” فيما يستعمل من ألفاظ.
ولا أشك أن جماعة كالإخوان المسلمين لولا أن لفظ (الجماعة) قديم في استعمالها له قبل هذه الضغوط، ولولا أنه ارتبط باسمها فصار كالعَلَم لها، لا كوصف؛ لا أشك في أن القائمين عليها كانوا سيفكرون في تغييره أو إسقاطه.
بل إن الأمر تعدَّى إلى ما يمكن أن نعتبره من لوازم لفظ (الجماعة)، فرأينا أن الإخوان بالرغم من استعمالهم للفظ الجماعة؛ استعملوا لقائدهم لفظ (المرشد) وليس الأمير، ولعل ذلك – تاريخيًا – للنأي عن منازعة الأمير الشرعي في سلطانه، وكذلك فعل بعض السلفيين ، الذي قبلوا فكرة وجود رأس لتلك المجموعة، فاستعملوا لفظ (القَيِّم) وليس الأمير كذلك، بالرغم من أن الإمارة لا تعني بالضرورة الإمارة العظمى التي تحتاج إلى بيعة، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثَةً فِي سَفَرٍ فَأَمِّرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدَكُمْ، ذَاكَ أَمِيرٌ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
ومن خلال الأدبيات المتعددة لـمُنَظِّري السلفية أو الباحثين في شئونها تطالعك عبارة أصبحت كأنها من “أسس” التنظير للسلفية: «السلفية ليست جماعة، وإنما هي منهج» أو نحو هذه العبارة،
فهل لهذه العبارة حقيقة؟ وإن كان فما يَعْنُون بها؟
في الحقيقة إنه لا يوجد فكر أو أيدولوجية ليست لها جماعة تنتمي إليها وتعتنقها، وإلا صارت هذه الأيدولوجية فكرة نظرية بحتة، لا وجود لها في الخارج، وعليه فالأفكار والمناهج والأيدولوجيات التي لا وجود لها في الخارج يمكن تقسيمها إلى:
1. فكر أو أيدولوجية كان لها أنصار ومعتنقون، لكنها لم تستمر، واختفى هؤلاء المناصرون، ولم تبق الفكرة إلا في المدونات، وعلى هذا فقد تحولت إلى فكرة تاريخية غير حية.
2. فكرة ذُكِرَت عَرَضًا في مدونة من المدونات، وهذه لا ترقى أن يقال فيها أنها منهج أو أيدولوجية، فهي خارجة عن البحث.
3. فكرة أو أيدولوجية نَظَّرَ لها صاحبها في مدونة عن اعتناق لها، لكن غيره لم يشاركه في هذه الفكرة، فلم تخرج عن حيز المدونة، إلا للنفر القليل الذي اعتنقها، وهذه صورة أيضا من صور الأفكار التاريخية غير الحية.
وبناءًا على ذلك :
وبناءًا على ذلك فالمنهج لا يسمى منهجًا من حيث الأصل إلا إذا كان له متبعون ومعتنقون، فهم جماعته، بغض النظر عن العدد، فحتى لو كانوا نفرًا قليلًا، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} «وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولـمَّا لم يتحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق؟!» .
و”السلفية” في حقيقتها هي الإسلام النَّقي الصحيح، والمرادف لاسم أهل السنة والجماعة
فأهل السنة دائمًا ما يتسمون باسمٍ يقصدون به إصلاح الخلل الظاهر في مجتمع المسلمين، أو إبراز الأصل الصحيح من أصول أهل السنة، وذلك مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصف صفة هذه الطائفة المنصورة «الذين يصلحون ما أفسد الناس» .
فاقترن أولًا اسم أهل السنة بـ (الجماعة)، فاسم (الجماعة) فيه دلالة على معنى سياسي – فيما نرى – فبالإضافة إلى وروده في الأثر؛ إلا أن اسم (الجماعة) ناسب تلك الفترة التي ساد فيها المنهج السني النقي، وكانت السيادة له على المستويين القيادة، والقاعدة، وبالتالي فقد كان الخروج على هذه (الجماعة) سواء كان خروجا سياسيا، أو فكريا، يستلزم المواجهة السياسية والعسكرية باعتبار أن في ذلك محاولات لتفتيت تلك الجماعة، وخروجًا عن إمام المسلمين الذي كان مُمَثِّلًا لهذا المنهج السلفي الرائق، ولهذا ظهر التعبير عنها في بعض الطرق أنهم «السواد الأعظم».
ثُمَّ ظهر اسم (أهل الحديث) لمعالجة إشكال ظهر في التعاطي مع الأصول العلمية، وهي مشكلة الرأي وتقديمه على النقل والحديث، فلم يكن معنى “أهل الحديث ” أنهم ليسوا من أهل القرآن، أو حتى نفي أنهم من أهل الرأي، فالإمام مالك رحمه الله الذي اشتهر بمدرسته الحجازية الأثرية في مقابل مدرسة الرأي العراق: تفقه بالإمام ربيعة بن فروخ (ت 136) الذي اشْتُهِر باسم (ربيعة الرأي) لأنه كان بصيرًا به، وبناءً على هذا فانتحال أهل السنة لهذه التسمية كان الغرض منه الإشارة إلى وجود هذا الخلل في أصل التلقي العلمي.
ثم ظهر اسم “السلفيون” أو “السلفية” لِتَقَابُل هذا الاسم أو الصفة مع “الخلفيين”
ثم ظهر اسم “السلفيون” أو “السلفية” لِتَقَابُل هذا الاسم أو الصفة مع “الخلفيين” أي الذي يتبعون الخلف، سيما بعد انتشار أفكار المتكلمين وآرائهم، ولا يعني هذا – كما قلنا في الحديث – أن السلفيين ينظرون لكل ما هو خَلَفي نظرة سلبية، وإنما لما هجمت الأفكار الشاذة من الحضارات السابقة على العلوم الشرعية، أكَّد أهل السنة على مرجعيتهم، وأنهم أصحاب أصول وجذور متصلة بسلفهم.
في عصرنا الحاضر
وفي عصرنا الحاضر استمر هذا الاسم لاستمرار الإشكالية وإن اختلفت صورتها، فقد اتخذت الأفكار الغريبة على المجتمع المسلم أشكال العصرنة والتغريب الذي يهدف لخلع المجتمع المسلم عن جذوره وهويته.
ولا شك أن اسم الجماعة أو الاتصاف بها هو الاسم أو الصفة التي أطلقها الشارع على منتحلي المنهج السلفي
ولا شك أن اسم الجماعة أو الاتصاف بها هو الاسم أو الصفة التي أطلقها الشارع على منتحلي المنهج السلفي فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عوف بن مالك: «…وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ “، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ الْجَمَاعَةُ» ، ومن حديث أنس بن مالك: «…قَالُوا : مَنْ هَذِهِ الْمِلَّةُ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهُ وَأَصْحَابِي» وفي لفظ: «…مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»، وهو مصداق قوله تعالى: { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } ، وهو خطاب مواجهة، أي فإن آمن أهل الكتاب بمثل إيمان الصحابة فقد اهتدوا، فأناط الهدى بمثْلِيَّة إيمان الصحابة، وإذا كان الإيمان إقرار، وقول، وعمل، فشمل مناط الهدى قول وعمل الصحابة رضوان الله عليهم.
بناءً على ما تقدم
وبناءً على ما تقدم فإن منتحلي المنهج السلفي يصح – بل يجب – أن يتصفوا بكونهم (الجماعة)، نقلًا وعقلًا.
أما ما يحاول الفرار منه بعض مُنَظِّري السلفية فهو ما استقرَّ في الأذهان في العقود الأخيرة من صورة سلبية عن تسمية (الجماعة)، ولعل هذا الفرار مما لا يتفق مع أصول المنهج السلفي، فمن صفات هذه الطائفة كما قال صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن عوف«…الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ» ، وبالرغم من أن العادة محكمة، أي أن أعراف الناس معتبرة، إلا أن هذه الأعراف تعتبر ما لم تصادم تَشَوُّفًا من الشارع في إثبات أمرٍ أو نفيه، ولهذا فنرى أن تَجَنُّب لفظ (الجماعة) مصلحة غير معتبرة، لمصادمتها للفظ الشارع، فضلًا عن أن مقام التنظير للثوابت والاستراتيجيات لا يصح فيه اعتبار المصالح الآنية والتكتيكات.
التعليقات