إسلاميو مصر والتعاطف الشعبي

الإسلاميون حركة تغييرية داخل مجتمعاتهم، قاموا كرد فعل للانحراف والتخلف ثم الهزيمة التي أصابت أمتهم. لكنهم ليسوا مجرد إصلاحيين جزئيين، ولا ينبغي أن يكونوا هكذا. لأنهم يعالجون أمراضا قد تجذرت عبر عشرات أو مئات السنين، ويواجهون عصابات قد تربعت على رأس أوضاع باطلة في الداخل والخارج .

وأما الأمر الثاني (مشهد مظاهرات 30 يونيو) : فهو مشهد خادع، لا يعبر عن النسبة الشعبية الحقيقية للانحياز إلى العلمانيين في مواجهة الإسلاميين

وفي معادلات التغيير الكبيرة هذه، يتأكد دور الحاضنة الشعبية، في مواجهة ميراث القوى المادية ( سلطة، إعلام، مال، سلاح، .. ). فالامتداد الإنساني هو الذي يحافظ على الوجود، ويخرج الكوادر، ويعوض المفقود. إذ أن الأمة هي الوقود الحقيقي الذي يكفل بقاء معركة التغيير مستمرة، بعد أن تعطيها الشرعية. والحركة هي الرائد، الذي يكتسب تأثيره بمقدار فعل من يتابعونه على خط التغيير المنشود .

لذا اعتبر الشرع قيمة هذه الحاضنة، فراعى فهمها وقبولها، فيما يحملها مما يجب عليها. وليس أدل على ذلك من موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – مع ابن سلول، في حادثة الإفك وقد استحق ابن سلول العقاب، وأراد الرسول – صلى الله عليه وسلم – عقابه. لكن لما رأى أن قومه من الأنصار لا يتحملون ذلك، حتى تثاور الأوس والخزرج، فسكنهم – صلى الله عليه وسلم – وترك ما أراد من الحق، لأجل ماهو أولى من الحق [ الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – ] .

من هنا كانت أهمية محاولة رصد التعاطف الشعبي الذي يحظى به الإسلاميون في مصر، خاصة وقد دخلوا في معركة طاحنة مع خصومهم من الانقلابيين، المدججين بأنواع القوة داخليا والمدعومين خارجيا .

هؤلاء الخصوم الذين أدركوا المعادلة، فتلطف أكثرهم مع الإسلاميين في الظاهر بعد نجاح ثورة يناير، إذ كان الإسلاميون على رأس الموجة الثورية، وفي قلب المشهد الشعبي. ثم لم يزالوا يمكرون بهم ليجردوهم من هذه القوة الحقيقية، فلما وصلوا بعداوتهم إلى يوم أحداث قصر الاتحادية، جاءتهم تعليمات القائد الخارجي بأن الوقت لم يحن بعد حتى تنقلبوا عليهم، لضعف الحشد الشعبي. كما نقل النصراني عماد جاد عن السفيرة الأمريكية آن باترسون .

لقد حاز الإسلاميون على نسبة تدور بين الخمسة والستين إلى السبعين في المائة، في أكثر الاستحقاقات الانتخابية التي تمت في أجواء الحرية، بعد ثورة يناير. فبدءا من الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأولى، ومرورا بانتخابات مجلسي الشعب والشورى، وانتهاء بالاستفتاء على الدستور، كانت النتائج دائما قريبة جدا مما ذكرنا. فهل هذه هي النسبة التي تعبر عن وجود الحركة الإسلامية بالإضافة لحاضنتها الشعبية في مصر ؟..

لا يشوش على التسليم لهذه النسبة إلا أمران :

أولهما : نتيجة الانتخابات الرئاسية، والتي فاز فيها المرشح الإسلامي د.محمد مرسي بفارق غير كبير، على منافسه الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء للمخلوع حسني مبارك .
ثانيهما : مشهد الجموع الغفيرة، التي نزلت الشوارع في [30 يونيو] ضد الرئيس د.مرسي .

ومناقشة مدى تغييرهما للنسبة التي ذكرناها كالتالي :

أما الأمر الأول (الانتخابات الرئاسية) : فإنه مفسر بالانقسام الذي ألم بالحركة الإسلامية حول شخص المرشح للرئاسة، فانتقل أثره بالتبع إلى المحيط المتعاطف، والذي يتأثر ولا بد تأثرا سلبيا بأي انقسام كهذا.

وأسباب الانقسام في هذا الموقف كانت ثلاثة، متفاوتة في درجة تأثير كل منها، لكنها بمجموعها كانت ذات تأثير كبير، وهي (مرتبة من الأعلى تأثيرا إلى الأقل) :

1- موقف الشيخ حازم أبوإسماعيل

والذي كان قد اكتسحت شعبيته الشارعين الإسلامي والعام. فلما استبعد من سباق الرئاسة، انسحب بنسبة كبيرة من مشهد السباق، وأثر هذا على قطاع كبير من محبيه، فلم يدعموا أحدا في الرئاسة، مع أنهم في الأصل إنما انحازوا للشيخ حازم بسبب وضوح إسلاميته وصراحة إظهاره لقضية الشريعة. فكان هذا خصما من رصيد د.مرسي .

2- ضعف تقديم الإخوان للدكتور محمد مرسي

إذ قدم أوراق ترشيحه في آخر أيام الترشح، كبديل احتياطي، بعد أن قدموا المرشح الأساسي لهم م.خيرت الشاطر، بل وبعد أن بدأوا في الدعاية المستعجلة والزائدة للمهندس خيرت. فلما تم استبعاد م.خيرت من السباق، أثر هذا كثيرا على محاولة تصدير د.محمد مرسي . وكان هذا خصما من رصيده في مساحات من الدوائر الشعبية الأبعد في التعاطف مع الإسلاميين، خاصة وقد استرخى الناس واعتدوا بآرائهم في ظل أجواء الحرية الجديدة عليهم .

3- موقف الدعوة السلفية بالإسكندرية

والتي أعلنت دعم د.عبدالمنعم أبو الفتوح في الجولة الأولى، ولم تقدم له على الأرض دعما يذكر. ثم أعلنت دعم د.مرسي في جولة الإعادة مضطرة، ولم تدعمه إلا في الأطراف التي لم تستطع أن تبلغها توجسها الشديد من رئيس إخواني للبلاد كما عمموا على كوادرهم في المحافظات. ولا يفوتنا هنا أن الدعوة الإسكندرانية في ذلك الوقت كانت ذات تأثير في التيار السلفي العام، ولم تكن خيانتها قد انكشفت بعد، كما حصل حينما انحازت لجبهة الإنقاذ العلمانية، وشاركت في الانقلاب ضد الرئيس الإسلامي.

إن الذي يريد أن يقلل من تأثير الأسباب التي ذكرناها، عليه فقط أن يتخيل ما يلي : انحياز الشيخ حازم بعد استبعاده إلى دعم د.مرسي بوضوح ومن البداية، وكيف سيكون أثره في ذلك الوقت ؟!.. تقدم د.محمد مرسي كأحد المرشحين الأساسيين للإخوان المسلمين، على السواء مع غيره ممن قدمهم التيار الإسلامي، ودون التعجل في تصدير أحد بعينه، ثم ظهور الدعاية منذ البداية لصالحه وبقوة مناسبة، كيف سيكون حضوره العام ؟!.. توحد كلمة الإسلاميين في السر والعلن على دعم د.مرسي كمرشح إسلامي وحيد للرئاسة، أليس اجتماعنا يجمع الناس علينا .. وتفرقنا يفرق الناس عنا ؟!.. فكيف ستكون النتيجة في هذه الحال ؟.

وأما الأمر الثاني (مشهد مظاهرات 30 يونيو) : فهو مشهد خادع، لا يعبر عن النسبة الشعبية الحقيقية للانحياز إلى العلمانيين في مواجهة الإسلاميين، للمعطيات الهامة التالية :

1- عدم وضوح ما عليه الصراع

إذ اجتمعت عدة مؤثرات لإخفاء البعد العقدي للصراع عن عموم الجماهير. فقد قام حزب النور ( الذراع السياسية للدعوة الإسكندرانية ) بدور بارز في هذا السياق، ابتداء من ترديد نفس اتهامات العلمانيين للإخوان، ومرورا بإعلان الانحياز إلى جبهة الإنقاذ، وحتى يوم 30 يونيو، وقيمة ذلك أنهم كانوا يمثلون قطاعا من الإسلاميين في حس الكثيرين، فتم تجريد الموقف من خلفيته الفكرية، وعليه لم يظهر أن المعركة بين الإسلاميين وبين خصومهم.

ثم كان دور الأزمات والإعلام، الأزمات المعيشية التي تؤثر على الضعاف، وهم كثرة كاثرة، تم خنقهم بأزمة غياب الأمن برعاية وزارة الداخلية، وبأزمة نقص الوقود برعاية وزارة البترول، وبأزمة قطع التيار الكهربائي برعاية وزارة الكهرباء (وهم الوزراء الذين بقوا في الحكومة الانقلابية). ثم الإعلام الذي يضخم ويخترع المشكلات، ويقلل الإيجابيات بل يظهرها في صورة سلبيات. فالأزمات تهيء الجمهور، والإعلام يزيف وعيه، ليكون التوجيه إلى نقطة واحدة مركزية دائما، وهي رفض وجود الرئيس الإسلامي.

والأهم من وجهة نظري، هو ضعف الخطاب الإسلامي للرئاسة، في محاولة لتألف غير الإسلاميين. وضعف السعي نحو إظهار الشريعة، في محاولة لتأجيل الصراع مع خصومها في الداخل والخارج. مع أن الحقيقة التي أثبتها واقعنا المصري، أن إعلاء الخطاب الإسلامي يجمّع ويقوي، وأن إظهار الانحياز إلى الشريعة، يمنح المصداقية ويحمي. لأنه يجعل كل مسلم أمام اختبار صريح حول ولائه لإسلامه، ويمنحه الدافع الذي به يصمد أمام الأزمات، ويرفض دجل الإعلام.

2- عدم التساوي بين السلوك الاحتجاجي والسلوك الانتخابي

فالجموع التي نزلت في 30 يونيو كانت تمارس مجرد سلوك احتجاجي، مجرد تعبير عن الغضب، وتفريغ للشحنة التي تمت تعبئتها خلال ما قبل ذلك التاريخ. في ظل حرص شديد ممن وجهوهم على عدم وضوح النهاية، لأن طرح نهاية بعينها كان كفيلا بتفريق بعض هذه الجموع، بتغيير موقفها، أوعلى الأقل بتحييدها. لقد استقر عند أكثر المصريين – مع كل التشويه الإعلامي – أن الإسلاميين على عيوبهم هم أفضل الموجودين.

وللعلم بهذا عند قادة الانقلاب، وأن الناس إن خيروا في سلوك بنائي، فلن يختاروا البديل العلماني، لأجل ما ذكرنا .. كان رفض القادة السياسيين للمعارضة العلمانية أن يدخلوا في منافسة انتخابية برلمانية، كبديل عن الانقلاب العسكري، لتحقيق أهدافهم ضد الإسلاميين. ورفضهم هذا شهادة منهم على أنفسهم بما ذكرنا.

3- عدم السماح بالحضور المقابل من الإسلاميين في الشارع

فبالرغم من كل ما سبق، إلا أنه قد بقي للإسلاميين رصيد غير قليل، فهناك كتلتهم الصلبة، وهي أكبر كتلة صلبة في المجتمع، وهناك مساحة قريبة من المتعاطفين غير قليلة. ونزول هؤلاء في مقابل المتمردين، كان سيمنع الصورة الجامعة التي أراد الانقلابيون إظهارها.

لذا تم هذا التغييب من خلال الإقصاء العدائي المصنوع للإسلاميين في الشارع، والذي كان يستهدفهم على المظهر بأنواع الاعتداءات. فلم يكن أبدا عداء شعبيا، بل كان صناعة أمنية في شوارع مصر، ظهرت في وقت مشبوه، بانتشار جغرافي مرتب، لتقليل حضور الإسلاميين في الشارع (مع أهداف أخرى بعيدة). ثم اختفت الظاهرة المريبة كما بدأت، بمجرد إعلان الانقلاب، وادعاء قادته أن أبناء التيار الإسلامي غير مستهدفين (في محاولة تخديرية فاشلة).

ثم توج ذلكم الإقصاء العدائي المصنوع، بجملة من التهديدات الكثيرة المسبوقة بجرائم، لتجعل الرسالة واضحة، لا تلتبس على أحد. فأي إسلامي سينزل في 30 يونيو معرض لكل شيء، حتى للقتل، ليلحق بمن سبقوه ممن قتلوا في المقرات، أو في الشوارع .. بلا ثمن.

يكفي في الدلالة على كلامنا، ما حدث بعد الانقلاب، حين استنفر الإسلاميون للنزول، فإنهم لم يستطيعوا أن يقابلونا على الأرض بحشود مكافئة. مع أنهم حاولوا ذلك، وكرروا المحاولة، ثم لم يجدوا غير التزوير الإعلامي المفضوح طريقا، ليخفوا به حقيقة المشهد، الذي يكذب ادعاءاتهم.

وما ذكرناه لا ينفي أنه في 30 يونيو، كانت شعبية الإسلاميين في أدنى مستوياتها على الإطلاق. بل ينفي فقط مصداقية النسب التي ادعاها خصومهم من جهة، وينفي استقرار حتى النسبة الحقيقية التي وجدت في ذلك التاريخ.

أما بعد الانقلاب، فقد صعد منحنى التأييد الشعبي للإسلاميين بصورة لا تخفى على مراقب، وانكمش الصف المعادي لهم، لتعود النسب إلى قريب من حقيقتها المستقرة، وذلك لما يلي :

1– المقارنة الفاضحة بين الإسلاميين وخصومهم

فما من نقص ادعوه في الإسلاميين عامة والإخوان خاصة، إلا وظهر فيهم كأبشع ما يكون. فقد رأى الناس كيف يقوم الاستبداد السياسي، ويرجع الطغيان العسكري والأمني، وكيف يكون قمع الحريات. بل رأى الناس كيف يعود الفساد على أشده، وعلى يد نفس عصابة مبارك القديمة. فتتوالى الأزمات التي تخنق الناس، ويتبدد وهم الحل للمشكلات بتنحية الإسلاميين عن الحكم.

2- وضوح هوية الصراع ووحشية الانقلابيين

فمع نشوة الانتصار وزهو القوة، كثرت الأخطاء التي تكشف عن حقيقة الصراع، وأنه كان رفضا للمشروع الإسلامي لا غير. فكل ما كان كارثة أيام د.مرسي تحول هو نفسه إلى شيء مفيد أيام الفريق السيسي، أو تم تجاهله، أو صار الصبر عليه من التعاون المطلوب من الشعب. هذا فضلا عن الارتماء في حضن بني صهيون، وإعطائهم ما لم يعطهم إياه مبارك في زمانه، والانخلاع من الانتماء للأمة كما حصل مع فلسطين وسوريا، بل الدخول في عداوة تجاهها ما دامت رافضة للمحتلين وأذنابهم.

وأظهر الانقلابيون وحشية بالغة في التعامل مع كل من وقف في طريقهم، فرصاص الجيش والشرطة لم يعد من المستغرب أن يسقط به آلاف الشهداء، على مرأى ومسمع من العالم أجمع. ومن نجا من رصاصهم العسكري، لم ينج من ميليشيات البلطجية التي تتبعهم، والتي يوفرون لها أنواع الدعم والنقل والحماية، لتكمل أسلحتهم النارية والبيضاء مهمة الانتقام من المعارضين. بل عادت سياسة استهداف النساء لكسر إرادة الخصوم، وزادوا عليها إيقاع الضحايا من الأطفال شهداء ومعتقلين.

3- الصمود الثوري للإسلاميين المجمّع للأحرار

فقد رابط الإسلاميون وثابروا إظهارا لقضيتهم في الشارع، وتحملوا في ذلك ما لا عهد للشارع المصري به، سواء أفي الاعتصامات، أم في بسالة الشهداء بالآلاف، أم في المواصلة رغم التنكيل بأسْرِ عشرات الآلاف، أم في الاستمرار رغم التعرض للجيش مع الداخلية والبلطجية. وهذا الصمود البطولي شكل أكبر نداء لكل أحرار النفوس أن ينحازوا إليهم، فالثبات في مواجهة الاستبداد مع مرور الوقت له أثره البالغ على الناس.

إنه لفهم المشهد الحالي وما بعده، لا بد من استحضار مجموعة من المسائل التي يترتب بعضها على بعض. فلا شك أن نسب الذين يظهر حضورهم في المشهد من الطرفين لم تصل لما اعتبرناه تمثيلا نسبيا حقيقيا، لكنه إذا تم رصد الظاهر، مع ضم دلالته على غير الظاهر، فهذا يؤدي إلى أن تكتمل الرؤية الأقرب إلى المصداقية.

الأقوياء والضعفاء، قسمة إنسانية حقيقية، تمثل مفتاحا لفهم شيء من التغير الظاهري السريع في حجم الفئات. فكل فئة تشمل أقوياءها وضعفاءها، لذلك يجمع الله ضعفاء كل فئة مع أقويائهم في الآخرة، لا لضعفهم، ولكن لاختيارهم الحر أن يكونوا من فئة بعينها. والوجود الحقيقي لكل فئة هو مجموع الأقوياء مع الضعفاء، وإن كان التأثير شيئا آخر.

في حال الشدة، وحين تكون التكاليف باهظة، يكون التأثير للأقوياء ومن قاربهم، ويختفي تأثير الضعفاء، بل ربما يقل وجودهم نفسه. بخلاف حال النصر أو حتى مجرد حال الأمن والحرية، فحينها يوجد ويكثر الضعفاء، ويظهر تأثيرهم عندما يصطفون خلف أقويائهم. فقول الله -تعالى-: ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) [ النصر: 1-2 ] إنما يقدم تفسيرا لظاهرة إنسانية عامة، تتعلق بسلوك أصناف الناس، في ظل الظروف المختلفة.

فالنسب تكون ظاهرة ومستترة للفئات، والنسبة التي ذكرناها في أول كلامنا لمجموع الإسلاميين مع حاضنتهم الشعبية، إنما كانت النسب الظاهرة في حال الأمن وتوقع النصر، فكانت تمثل مجموع الأقوياء بضعفائهم. أما عندما دخلنا في الأجواء الانقلابية بشدتها، فلم يعد يظهر من فئتنا إلا الأقوياء ومن قاربهم، وغاب تأثير ضعفائنا هنا.

فمن يرى تكافؤا بيننا وبين خصومنا اليوم، يرى الظاهر فقط. والذي يبدو فيه أثر ضعفاء المجرمين، المحتمين بأقويائهم، المستبدين بأنواع من القوة. فيبدو مجموعهم الشامل لأقويائهم وضعفائهم، مقابل أقويائنا. وهذه نسب التأثير في حال شدتنا، لا نسب الوجود الحقيقي، ولا نسب التأثير في حال الأمن.

أما النسب بعد سقوط الانقلاب، فستختلف قطعا عما هو ظاهر الآن، بل أجزم أنها ستختلف عن النسب المذكورة في أول مقالنا. فالإسلاميون ستظهر نسبتهم الجامعة (بين الخمسة والستين إلى السبعين في المائة) مقابل نقصان كبير سينال نسب خصومهم، حيث سيتفرق أقوياؤهم، ويختفي قطاع من ضعفائهم، بينما سيلحق باقي ضعفائهم بركب المنتصرين، نفاقا وإيثارا للدنيا، إذ لا يظهر النفاق إلا في مثل هذه الأحوال.

وكيفية التعامل مع هذه النسب، لا ينبغي أن تتجاوز الحقائق المفسرة لها وجودا وظهورا. فأقوياؤنا الذين شكلوا عماد مقاومة الانقلاب، يجب أن يكونوا عماد حماية الثورة، وبناء الدولة. وضعفاؤنا الذين لم يتلونوا في ولائهم، نحرص على تقريبهم، وحسن الانتفاع بهم، مع مراعاة تقليل صدارتهم للمشهد حتى تزداد قوتهم.

أما خصومنا الأقوياء فينبغي عقابهم على جرائمهم مهما أمكن، والحرص على تفريقهم، وحرمانهم من التأثير الضار على أقل تقدير، ولا تقبل مسامحتهم أو التساهل معهم دون دواع كبيرة. وضعفاؤهم يتم تأليفهم دون ائتمان لهم، ويفرق بينهم في المعاملة بحسب ما يظهر منهم، مع الحرص على جعلهم محلا لدعوتنا، فنكسب منهم أنصارا، أو نحيّد قطاعات منهم في خصومتنا.

إن الصراع في حقيقته صراع على الإنسان، يربح فيه من يحسن كسبه، واستخراج مكنون طاقته وما يملك، والباقي لذلك تبع .. ولهذا السبب كانت هذه الورقات.


التعليقات