الماضي القريب
في عهد الاستبداد البائد حاول النظام تجفيف منابع التدين في مصر ، ولما فشل في ذلك لجملة من الأسباب ، حاول أن يسيطر على الحالة الإسلامية باختراق قمي ، على مستوى الأفكار ، وكذلك على مستوى الرموز – العام منها والتنظيمي – . فأشاع الأفكار الأكثر تصالحا مع باطله العلماني ، سواء على مستوى إسباغ الشرعية عليه ، أو على مستوى فقه المتاح في واقع الحركة ، وسمح لأصحاب هذه الأفكار بالوجود أو الظهور بنسب معينة ، في مقابل منع الرافضين لها من الوجود أو الظهور بوسائل متعددة .
الأثر السيء
أدى ذلك في الحركة الإسلامية إلى تقليل في مساحة الأفكار التغييرية ، مع ندرة في الرموز الحاملين لها ، بالإضافة إلى تقليل في فاعلية ومبادرة الأجيال الجديدة ، مع انتظارهم لتوجيه شيخ بعينه ، أو لأمر قائد بعينه ، كما تعودوا في ظل سنوات الاستبداد الأخيرة . فكانت حالة من شبه التجمد أصابت عموم التيار ، وأتاحت نوعا واسعا من السيطرة لصالح الحكم المستبد .
عندما ثار الشعب
ومع طوفان ثورة 25 يناير ، وظهور تأثير الشعب الذي يوصف أكثره بالتعاطف الإسلامي ، حاول المجلس العسكري الحاكم السيطرة على الحالة الإسلامية ، بل وإحباط تأثيرها ، من خلال التعامل الخداعي مع أكثر الرموز والقيادات الإسلامية . في محاولة للالتفاف بالاحتواء ثم العزل التدريجي ، مع الإرضاء الجزئي بالمكاسب المفخخة والتي يسهل سلبها ، تمهيدا لاستثناء التيار الإسلامي من مشهد ما بعد الثورة .
المتغيرات الخطيرة
فجاءت جمعة 18 نوفمبر 2011 علامة فارقة بين ما قبلها وبين ما بعدها ، وهي الجمعة التي دعا إليها الشيخ حازم أبو إسماعيل للمطالبة برحيل العسكر عن السلطة ، في خط مغاير للخط العام لأكثر أولئك الرموز والقيادات ، وفرضت ثلاثة متغيرات على الواقع :
الأول : توجت رفع سقف المطالب الإسلامية ، بالاحتشاد خلف مطلب تحكيم الشريعة ، على يد رئيس إسلامي يجاهر بمشروعه .
ويدرك قيمة هذا المتغير من يلاحظ الخطاب الإسلامي ، وكيف بدأ في أول الثورة ضعيفا ، لدرجة وعد البعض بعدم ترشيح رئيس إسلامي ، وإقرار البعض لذلك ، وسكوت البعض بشكل مريب كأن الأمر لا يعنيه ، أو كأنه لا يريد أن يتحمل تبعته . وما كان الكلام عن “الرئيس التوافقي” ببعيد عن كثير الرموز التقليدية لتيارنا الإسلامي .
فلم يرتفع شعار “الرئيس الإسلامي” الذي يعد بـ”تطبيق الشريعة” إلا بعد فرض هذا المتغير من خلال رمز صاعد – الشيخ حازم أبو إسماعيل – ، وحركات نامية من قواعد العمل الإسلامي – كالجبهة السلفية وعدد من اللائتلافات الشبابية الأخرى – ، وحشد جماهيري من عموم الملتزمين بالحركة الإسلامية والمتعاطفين معها بل ومن عموم شباب الأمة الذي بدأ يستعيد هويته الحقيقية.
الثاني : أثبتت كسر قيد السيطرة على الحركة الإسلامية بقواعدها ومتعاطفيها
من خلال تجاوز قطاع مؤثر من هؤلاء لأوامر وتوجيهات الرموز التقليدية . وعدم استجابتهم لخطاب رأوه غير كاف في التعبير عن قضيتهم من جهة ، وغير واع في التعامل مع واقعهم من جهة أخرى .
فظهرت كتلة ، وإن لم تتشكل كلها في صيغة متجانسة ، لكنها كتلة مؤثرة بصورة متزايدة ، وهي خارج السيطرة بالنسبة للنظام أو بقاياه ، سواء بشكل مباشر بالتهديد أو بالخداع ، أو بشكل غير مباشر بضغط الرموز الإسلامية التقليدية مع ما لهم من حب وتقدير عامين .
يدرك قيمة هذا المتغير من تابع كيف أقنع المجلس العسكري كثيرا من التنظيمات والتيارات الإسلامية التقليدية بالانسحاب من الفعاليات الثورية ، ليكون في حس الجماهير انسحابا من دعم مطالبهم المشروعة . وأقنعوهم بالاكتفاء بالمكاسب الهشة التي أوهموهم أنها ستكبر وتصلب ، ليكون ذلك في حس الناس رضا بالمكتسبات الشخصية والفئوية ، بل وليتهموا بعد ذلك بالعمالة للمجلس ضد الثورة والشعب .
فلم يحافظ على مبدأية وثورية الإسلاميين ضد الطغيان – وهم الذين دفعوا أعز أعمارهم وأغلى أموالهم لذلك عبر العقود – إلا خروج وازدياد هذه الكتلة عن السيطرة التقليدية ، وانغماسهم مع الناس ، ورفضهم مظالم المستبد الجديد كما رفضوا مظالم المستبد القديم ، وكان تتويج ذلك في جمعة “المطلب الوحيد” وهو: رحيل العسكر عن السلطة ، في 18 نوفمبر 2011 .
الثالث : رسخت إطلاق فاعلية الشباب الإسلامي للتأثير والتغيير
وهم الذين ما بدأ روادهم المسير في بواكير الصحوة إلا ليجددوا الدين ، ويقيموا الشريعة ، ويعيدوا الخلافة ، ويحرروا المستضعفين ، ويقودوا العالم . وبذلوا في سبيل ذلك الأرواح فضلا عما دونها . فكانوا ضد تيار السلبية ، وضد تيار التبعية ، بل ضد تيار الدنيا كلها .
لكن الانكسار الذي منيت به الحركة الإسلامية في العقدين الأخيرين ، على المستويين المحلي والإقليمي ، بالإضافة لظهور الخطاب المتصالح والمثبط . كل ذلك قد أثمر شلا لفاعلية الأجيال ، والتي زادت أعدادها ، مع قلة وضعف باديين في تأثيرها .
فالخطاب الشائع قبل الثورة ، بل وفي فترتها الأولى ، كان خطاب مراعاة الاستضعاف ، لا العمل للتمكين . وفقه المتاح ، لا الدفع لزيادته . والتعامل مع الواقع ، لا العمل لتغييره . وتجنب الخطوط الحمراء والصفراء بل والبيضاء عند البعض ، لا السعي لتجاوزها . والانكفاء على النفس ، لا تغيير العالم .
وأراد المجلس العسكري ومن وراءه أن يديروا معادلة الواقع ، بإظهار فاعلية للقلة العلمانية ، ذات الحركة السريعة ، والصوت العالي . في مقابل الكثرة الإسلامية ، التي أرادوا تكريس تعطيلها ، في استثمار لنتاج فترة الاستبداد الأمني ، ومع وسائل تتناسب مع ظرف الثورة الشعبية .
وللمقارنة فقط ، فأعدادنا التي كانت تنزل للتظاهر سلميا ضد تسليم “كامليا شحاته” لتفتن في دينها ، كانت بالعشرات ولم تجاوز ذلك إلا قليلا . وذلك كان قبل الثورة . أما الذين نزلوا للمطالبة بعودة الحقوق ، ورعاية الحرمات ، ورفض استبداد عسكر مبارك بالحكم بعده . فقد زادوا حتى بلغوا في 18 نوفمبر 2011 عشرات الألوف في أقل التقديرات ، كلهم صاروا فاعلين مؤثرين مغيرين .
فكانوا متغيرا أثر في معادلة القرار العام ، وأدى – مع أسباب أخرى – لما كان بعده من انتخابات لمجلس الشعب ، بل وللرئاسة وتسليم السلطة ، والتي لم يخف على أحد حينها كيف كان العسكر متشبثا بها .
إشكالية في ظل المكاسب
كانت هناك إشكالية كبيرة في ظل كل المكاسب السابقة ، وهي التلازم بينها وبين شخص الشيخ حازم أبو إسماعيل ، والذي فرض نفسه زعيما لهذا الحراك ، بجودة طرحه الإعلامي العام لقضية الشريعة ، وحسن استشرافه لمستقبل العلاقة مع العسكر ، مع المحافظة على الارتباط بقضايا الحقوق والحرمات لعموم الناس .
فصار غياب الشيخ حازم لأي سبب كان – مما يرد على البشر – ، أو غياب رأيه بخطأ أو تردد – قد لايسلم من شيء منهما إنسان – ، يهدد بتفتيت هذه الكتلة ، وبتشتيت فاعليتها ، وبخسارة قضيتها التي انتصبت لنصرتها .
من آثار الإشكالية
وظهرت الإشكالية بوضوح في موضوع الرئاسة ، فقد استبعد الشيخ حازم بطريقة لم تخل من ظلم . ولم يكن الواقع العام سواء الإسلامي أو الشعبي قادرا على تحمل أعباء ثورة لإعادته . كما لم يعلن الشيخ حازم دعمه ولو لأقرب المرشحين لقضيته “قضية الشريعة” . وكاد مرشح “الثورة المضادة” أن يتولى الرئاسة ، ليعود الجميع إلى الوراء خطوات لا يعلم مداها إلا الله .
إن غياب رأي أو شخص الشيخ حازم ، مهما كانت أسبابه ، قد سبب في إضعاف زخم هادر . ظهر ذلك الزخم في كل مؤتمراته في أنحاء البلاد ، وظهر في عدد التوكيلات التي جمعت لترشيحه ( 160 ألف توكيل ) والتي لم يقاربه في عددها أي مرشح رئاسي آخر .
تفاوت المواقف
ثم ثبتت فئات مع القضية ، وقرأت خطورة الموقف ، فنقلت دعمها للأقرب إلى المشروع ، وبهم أتيح للجميع فرصة أخرى .
وأسقط في يد كثيرين فغاب تأثيرهم في لحظات فارقة من تاريخ أمتهم ، أو استهلكتهم خصومة مع من خذلوهم من إخوانهم في الصف الإسلامي ، فكاد الجميع أن يكونوا ضحايا .
وأخطأ البعض فدعموا الأبعد عن قضيتهم من جهة ، والأبعد عن إمكان تحقيق الفوز من جهة أخرى ، انخداعا بتزييف إعلامي مقصود لم يكن هدفه أكثر من تفتيت الصوت الإسلامي في تلك اللحظة .
الجمعة الفارقة
وجاءت جمعة “الشريعة” في 9 نوفمبر 2012 ، جاءت لتبرز كل المتغيرات الإيجابية في جمعة “المطلب الوحيد” في 18 نوفمبر 2011 ، ولتضيف حلا للإشكالية السابقة . فقد انفك بنسبة كبيرة ذلكم التلازم ، وظهرت مركزية القضية الجامعة “قضية الشريعة” .
لقد جاء الشيخ حازم ومن لازالوا أسرى التلازم بين شخصه وبين القضية ، وجاءت الجماعة الإسلامية وكانت مخاصمة لترشيح الشيخ حازم ، وجاءت الجبهة السلفية وكانت قد نقلت دعمها للدكتور محمد مرسي بعد استبعاد الشيخ حازم من الرئاسة ، وجاءت مجموعات شبابية منها من لم يدعم أحدا بعد الشيخ حازم ، ومنها من دعم د. أبو الفتوح . وجاءت عشرات الألوف بل مئات الألوف من كل شكل ولون ، حتى من قواعد الجماعات التي أعلنت عدم نزولها . بل ومن عموم الشعب المسلم الذي أعلن انحيازه إلى دينه وشريعته .
ما بعد الجمعة
إنه مهما اختلف الناس قبل “جمعة الشريعة” في مدى الحاجة إليها ، أو مدى إيجابية أو سلبية ثمراتها ، فضلا عن التفاوت في توقع درجات نجاحها أو فشلها . مهما اختلفوا في كل ذلك ، فقد كانوا متفقين على أمر واحد ، وهو أن ما بعدها لن يكون كما قبلها . وهذا صحيح تماما .
فقد تحررت مساحة واسعة ومتزايدة من الحركة الإسلامية ومن عموم الشعب ، من كل قيد يمكن أن يعوق مسيرتها نحو تغيير الحياة إلى الإسلام وشريعته . وهذا سيعيد تشكيل الواقعين الإسلامي والعام ، وسيتجاوز من لن يستجيب لإعادة التشكيل هذه ، في ظل ثورة تعني : سرعة التغيير .
التعليقات