منذ حققت ثورة 25 يناير هدفا كبيرا، وهو تنحي المخلوع مبارك، بدأ الصراع على ما بعد التنحي. وتجلى ذلك في الصراع حول هوية الثورة، لتكون هوية لدولة ما بعد الثورة.
أسباب الصراع
لعل أكبر تلك الأسباب راجع لعدم ظهور قيادة للثورة براية واضحة، مما ترك مجالا واسعا لكل من يحسن الترويج لدعواه. مع أهمية التفريق بين عدم الظهور وعدم الوجود من ناحية، ومن ناحية أخرى بين قيادة الكيانات المنظمة وقيادة الجموع الشعبية.
ومن أسبابه أيضا ظهور تلك الأطياف المتنوعة من الشعب المصري في ميدان التحرير خاصة، وفي أكثر ميادين الثورة عامة. مع أن الاشتراك لا يعني التساوي في الوجود والتأثير، ولا في المغنم والمغرم، ولا في الحقوق والواجبات.
ومن أسبابه المهمة أن أكثر الشعب كان مشاهدا أكثر منه مشاركا، ليس زهدا في التغيير، لكن طول سنوات القهر كان قد شل الإرادة. وأكثر من شارك من جموع الشعب لم يكن يفكر في اللحظة التالية، بقدر ما كان الهمّ مجتمعا على تجاوز لحظة حالية مؤلمة. فأفاق كل هؤلاء على مشاهد الصراع في محطات متتالية.
من صانع الثورة ؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أن نقرر ابتداء أن الثورات الشعبية عمل تغييري كبير. وأن الكلام هنا إن جاء في موضع المنازعة والاستحقاق، فإنه يكون عن صاحب الدور الأكبر، وليس الوحيد بطبيعة الحال.
هل هو من بدأ شرارتها .. حتى لو كان عاجزا عن الوصول بها إلى مرحلة النجاح ؟.. ولو سلمنا على سبيل التنزل بهذا، فمن الأولى بهذا الوصف .. هل هو البادئ في الطريق وإن تعثر .. فقد فتح الباب ؟.. أم هو الذي تتصل بدايته بالنجاح ؟.. وهل ينظر هنا إلى الاتصال المكاني، كما قد ينظر إلى الاتصال الزماني ؟..
إن الحركات الإسلامية لها سبق وتاريخ، في محاولة تغيير واقع الأمة إلى الأحسن، وذلك عبر عشرات السنين. كما أنها قد سلكت لهذا التغيير كل سبيل، من إحياء علمي، وتجديد دعوي، ومنازعة سياسية، بل ومقارعة مسلحة في بعض الأحيان. ويكفي دليلا على هذا، تلكم الأعداد الهائلة من الشهداء والأسرى، الذين قدمتهم الحركة خلال عقود متتابعة، وكانت التهمة الملازمة لهم هي محاولة قلب نظام الحكم.
وبسبب ما تراكم من ضغوط هائلة، وحملات استئصالية أخذت سمتا عالميا في العقود الأخيرة، حصل قدر من الانقطاع النسبي بين الأجيال في بعض الاتجاهات، وحصل قدر من الحصار عن الفضاء التغييري بالنسبة للأكثرين. وأثمر هذا أمرين : أولهما : الحذر الزائد عند أكثر قيادات الحركات الإسلامية، وتجنب المخاطرات التي قد تؤدي للاستئصال. وثانيهما : تحرر أعداد من القواعد الراغبة في الحركة التغييرية، لا بمعنى التخلي عن الأطر التنظيمية، ولكن بأخذها مساحات من السماح بالحركة بدون اسم الحركة، أوحتى بأسماء أخرى مسموح لها بقدر نسبي من الفضاء التغييري.
ومن خلال المعطيات السابقة، نستطيع تفهم عدم مبادرة قيادات الحركات الإسلامية لتبني الاحتجاجات، مع وجود عدد لا بأس به من أفراد هذه الحركات في الفعاليات، ومنهم من هو معروف شخصيا وتنظيميا، لكنهم حضروا بصفتهم الشخصية ( أمثلة : د. محمد البلتاجي وغيره من القيادات – عبدالرحمن عز وغيره من الشباب الذين تحركوا من خلال 6 إبريل، أو بشكل فردي متعاونين مع الفعاليات ) .
إن إشعال البداية أمر مهم، لكن .. من يستطيع أن ينكر أو يتجاوز التاريخ الحافل للإسلاميين في هذا ؟!.. ومن يملك أن يلغي نوع وجودهم في البداية الجديدة المتصلة بالنجاح ( مع مراعاة ظرفهم الذي لم يشاركهم فيه غيرهم ) ؟!.. وهل مفجروا الثورة التونسية أولى بالاعتبار لتأثيرهم على المشهد المصري رغم الفاصل المكاني، من الإسلاميين في مصر ؟!.. أم أن تجاوز وتجاهل كل ما سبق مقصود – ولو لم يكن موضوعيا – لأجل حرمان الثورة التي نجحت من أي صفة إسلامية ؟!.. وهل مجرد البداية هو الأمر الأهم في الثورات حقا ؟!..
إن محاولات كثيرة تبدأ في العالم وتفشل، وعندها يكون النزاع حول المسئول عن الفشل أكثر منه حول المسئول عن البداية. فالبداية مقدمة وليست ضمان نجاح، بل لا بد من جهد متمم، هو الذي يحسن استثمار البداية، وإدارة الحدث، حتى يصل به إلى النهاية الناجحة.
ولم يكن يملك تلك المقومات أثناء ثورة 25 يناير إلا الإسلاميين عامة، وجماعة الإخوان المسلمين خاصة. وهذا على مستويين : أولهما : الحشد العددي، وضمان استمرار امتلاء الميادين، وأهمها ميدان التحرير. وثانيهما : الإدارة الميدانية، تنظيما ودعما، لمساعدة بقاء الحشد وحمايته وحسن إظهاره.
وقد شهد مختلف المشاركين والمتابعين على تعدد مشاربهم بدور الإسلاميين والإخوان الحاسم فيهما، وكان ذلك واضحا بعد التنحي مباشرة، وقبل أن تبدأ الحملات المضادة ( بل حمّل ضباط أمن الدولة الإخوان المسئولية الحقيقية عن نجاح الثورة بعد التنحي، كما عبر أحدهم في أحد السجون أمام عدد من المعتقلين الإسلاميين [ حكاها لي من سمعها مباشرة ] وتوعدهم بالعودة والانتقام [ كما يحدث الآن ] ) فكيف لا يكون من حقق للثورة النجاح صانعا لها ؟!..
لكن الثورات لا تستقر إلا بالبيئة الشعبية الحاضنة والقابلة والداعمة، وهذه البيئة شريحة مجتمعية أوسع من خصوص الحركات والتنظيمات، وبدونها لا استمرار ولا استقرار للثورة. لأنها ذلك الغلاف المجتمعي القوي الذي يمنح الحراك الحياة، ويحسم المعركة لصالحه. ومع أنه قطاع غير منظم، لكنه مؤثر جدا، فهل يكفي عدم تنظيمه لاستبعاده من خريطة صناعة الثورة ؟!.. وهل كانت التنظيمات ستتحرك بدونه في فراغ تحقق فيه أهدافها ؟!.. أظن أن هذا لا يعقل، ولا يسوغ تجاوزه بسبب صعوبة قياسه كما وكيفا.
محددات هوية الثورة
لما كان الخطاب الدعائي خطابا فضفاضا، ولما كان متأثرا بالخلفية الفكرية لصاحبه، وفي نفس الوقت كان موجها لتحقيق مكاسب آنية تتعلق بتوقيت الخطاب. لما كان كل ذلك وغيره مما يشوش على الرؤية الصحيحة، كان لا بد من معايير موضوعية حقيقية بها تحدد هوية الثورة. وهذه المحددات هي :
أولا : الإدارة
فإدارة أي عمل تحتل مكانا بارزا فيه، وتعبر عن الهوية المعتبرة بهذا العمل، وإن شمل شرائح شتى ذات هويات متعددة. وقد قدمنا سابقا أن الإدارة الميدانية في التحرير وفي غيره من ميادين الثورة المصرية كانت بيد الإسلاميين عامة والإخوان خاصة، ولولا تلك الإدارة لما استمر حشد الميدان، ولا دعمه بما يحتاجه، ولا حمايته مما يجتاحه.
ولا يعترض هنا بعدم رفع الراية الإسلامية، فإن ذلك كان قرارا اتفق عليه المشاركون من الإسلاميين وغيرهم، في محاولة لتفادي الاستئصال الذي كانت الدولة الاستبدادية تواجه به الإسلاميين خاصة. وعدم الإعلان لا يغير من الحقائق شيئا كما هو معلوم.
ثانيا : الحسم الثوري
والمقصود به تلك الكتلة الصلبة التي تثبت وتستمر في الحراك، فتجمع الجماهير حولها. والجماهير يزيدون وينقصون حول تلك الكتلة، التي تمثل الجسم الأساس في الفعاليات الثورية. وقد كان هذا الجسم في معظمه إسلاميا، وفي الغالب إخوانيا أيضا.
ونظرة إلى الفعاليات التي كان ينزل فيها الإسلاميون، ثم نظرة أخرى إلى تلك التي كان ينفرد بها غيرهم، ومقارنة عددية بينهما من جهة، وبين أعداد المشاركين في الثورة من جهة أخرى، كافية لجعل الصورة واضحة حول هوية معظم الجسم الثوري في مصر. والكلام هنا عما بعد التنحي، والذي تقارب زمنيا مع حشود ثورة يناير، وقبل دخول مؤثرات أخرى على طبيعة الحشود الجماهيرية.
ثالثا : الهوية الشعبية
باعتبار أن كثرة مشاركة من عموم الشعب وهذا من جهة، وباعتبار أن نجاح الثورة بقبول هؤلاء العموم وهذا من جهة أخرى، وباعتبار أنه لا يمكن وصف ثورة بأنها شعبية وهي بهوية مغايرة للهوية الشعبية السائدة من جهة أخيرة. والهوية الإسلامية هي هوية شعبنا رغم كل ما ألم به، تصدق ذلك خياراته الحرة، ولا يختلف فيها أصحاب الرأي العاقل من مسلمين وكفار.
فليس العلمانيون واليساريون إلا نخبا معزولة، بهوية منافرة لهوية الأمة، مهما زادت أعدادهم عما قبل. لهذا يفرون من لفظ العلمانية سيء السمعة إلى لفظ المدنية، والذي لا يحمل رصيد العلمانية المنافي للإسلام في حس الجماهير، بل ويحملون اللفظ الجديد ما لا يحتمله ليمرروا علمانيتهم، في تزييف مفضوح يكشف معرفتهم بالهوية الشعبية. أما اليساريون فيكفي أن منهم عندنا في مصر من يقول إنه شيوعي مسلم !! في نفاق مفضوح يؤكد ما قررناه.
بل لأجل ما ذكرنا، حرص هؤلاء الخصوم على نزع الصفة الإسلامية عن الإخوان قبل إسقاطهم، بأشياء منها أنهم لم يطبقوا الشريعة (والتي يخاصمهم لأجل مجرد تبنيها هؤلاء الخصوم) !! وحرصوا على استغلال شيخ الأزهر وحزب النور (التابع للدعوة السلفية بالإسكندرية) لإخراج الهوية الإسلامية للشعب من معادلة الصراع في ظل الانقلاب.
مراحل الصراع
لقد مر الصراع على هوية الثورة المصرية بثلاث مراحل كبيرة :
الأولى : تفريغ الشارع الثوري
والمقصود تفريغه من قوته الحقيقية، والتي تمثل هويته الصادقة. فتم إعطاء مكتسبات هشة (يسهل استرجاعها مرة أخرى) للقوى الإسلامية التقليدية والكبرى، مقابل عدم “انجرارهم” للنزول في الشارع الثوري، كما صوروا لهم.
وجدير بالذكر أن من الإسلاميين من لم يستجب لهذا المخطط، فقد حرص الشيخ حازم أبو إسماعيل والجبهة السلفية وآخرون، مثلوا التيار الإسلامي الثوري، على عدم إخلاء الميادين، ونزلوا فيها في مختلف مراحل الثورة المصرية. وما جمعة المطلب الوحيد في 18/11 وما بعدها من أحداث محمد محمود منا ببعيد.
الثانية : التفريق عن المدد الشعبي
إذ هو الحاضن والحارس للثورة. فاستغل غياب القوى الإسلامية التقليدية عن الشارع، لصنع فجوة بينها وبين بقية القوى التي شاركت في الثورة من جهة، وبينها وبين عموم الشارع المصري من جهة أخرى. وقد كان للإعلام الانقلابي دور حاسم في هذا التفريق، من خلال التناول الموجه للأخبار، ومن خلال الكذب الصريح أيضا.
لقد أخطأ الإسلاميون في البرلمان وفي الرئاسة، حين لم يبادروا بمكافأة الشعب على ثورته، مكافأة سريعة تثبت صلة الناس بهم في نسيج ثوري قوي. واستدرجوا في خطط طويلة، حاربها الإعلام بالتشويه الخادع، وحاربتها عصابة المخلوع المتمركزة في الدولة، بصنع أزمات الفوضى الأمنية ونقص الوقود وانقطاع الكهرباء.
وأؤكد هنا أيضا أن تيارنا الإسلامي الثوري لم ينفصل أبدا عن عموم الناس، وكان مع كل مظلوم وصاحب حق، بغض النظر عن انتمائه الفكري، كما في موقفنا من كشوف العذرية. لكن التيارات المعادية للإسلاميين حرصت على أن تطمس هذا الدور على المستويين الإعلامي والسياسي.
الثالثة : الإقصاء الوجودي
وكان ذلك من خلال الانقلاب العسكري الذي يقصي الإسلاميين عن المشهد السياسي. ولما كان رفع الشعار الإسلامي والانتماء للحركة الإسلامية سر قوتنا، فقد جاء الانقلاب مصحوبا برموز دعوية لإقصائهم عن المشهد الديني. بل إن الانقلابيين لما فوجئوا بصمودنا الثوري، قرروا السماح بوجود ثوري يمزج بين من دعموا الانقلاب وبين غيرهم بحيث تعلو فيه أصوات اليسار والعلمانيين، وتم تلميعهم لإقصائنا عن المشهد الثوري.
ولا يقصد بالإقصاء الوجودي هنا إبادة كل أفراد الحركة الإسلامية، فهذا مستحيل. لكن المقصود تغييب أثرهم وإخفاء راياتهم وإسقاط شرعيتهم في حس عموم الناس.
خيارات ما بعد الانقلاب
إنه لا بداية بعد النهاية، فنحن لسنا في 25 يناير التي كانت بعد عقود من الاستبداد. تلك العقود التي كان سقف طموح الإسلاميين فيها توسيع هامش الحرية، والتي استسلم جمهور الناس فيها للذل، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن من ذاقوا طعم الهزيمة على يديك مرة، لن يسمحوا لك أن ترجع إلى ما كنت عليه، لتهددهم مرة أخرى. فلا بد أن ننسى فكرة العودة إلى ما قبل 25 يناير.
فيجب الحذر من فخ الاحتواء، لأن خصوم المشروع الإسلامي حريصون على منع ريادته، إن لم يمكن منع وجوده. لذلك هم معنا بين خيارين : الأول : الإقصاء، الذي يلغي أثر وجودك. والثاني : الاحتواء، الذي يجعل أثرك دائما محجّما وتحت السيطرة. وبكل اعتبار فتغييب الراية الإسلامية هدف أصيل لهؤلاء الخصوم.
وسبيلنا إحياء الثورة، فإن هذا هو الحل الوحيد الذي يمكن أن نتجاوز به ما يعد لنا من تصفيات للقادة، وتغييب لكوادر الحركة في السجون، وسحب للقاعدة الشعبية بالترغيب والترهيب، ترغيبا في الرموز والأطروحات البديلة لتغيير الواقع بالإسلام، وترهيبا بسيف السلطان المعادي لأهل الشريعة.
ولا ينظر هنا إلى حجم التضحيات المبذولة في المدافعة، فلو استتب الأمر للانقلابيين لتضاعفت الخسائر، وبدلا من قتل الآلاف أمام العالم، فإن عشرات الآلاف كانوا سيقتلون في صمت ودون أن يشعر بهم أحد.
لكنه امتداد مختلف لثورة 25 يناير
وهذا الاختلاف ناشئ عن المتغيرات التي نالت الحركة الإسلامية ذاتها من جهة، وناشئ عن متغيرات نالت المجتمع المصري العام من جهة أخرى، وأبرزها :
أولا : انكشاف أركان الثورة المضادة
سواء منهم من حاول التخفف من انتمائه إلى عصابة المخلوع، أو من حاول أن يلبس ثوب الثورة التي نجحت رغما عنهم. وهؤلاء في السياسة والإعلام، وفي الداخلية والاقتصاد، بل وفي مجال الدعوة أيضا. فقد ثبت أنه لا ثورة بلا تطهير، وأن من تتركه اليوم من هؤلاء يتقدم ليقتلك غدا.
ثانيا : فضيحة التوافق المزعوم
فقد انحاز أكثر العلمانيين واليساريين والنصارى إلى فلول دولة المخلوع، لأن عداوتهم للإسلاميين أعمق مما بينهم وبين تلك الدولة العميقة. بل إنهم استخدموا كل ما قدم لترضيتهم من الإسلاميين في ضربهم، وأثبتوا أن الولاء على العقيدة هو الأرضية الأبقى في كل نزاع.
ثالثا : وضوح الهوية الإسلامية
باعتبارها محور الصراع أولا، ثم باعتبار أهلها أصحاب هذا الامتداد الثوري بلا منازعة ثانيا. فقد كان الانقلاب على دستور 2012 لما حواه من اعتبارات إسلامية رأوها زائدة ( وإن كنا نحن نراها أقل من المطلوب ) ، وكان الانقلاب على رئيس يعلن انتماءه لحركة إسلامية قامت من أجل الشريعة والخلافة فوصموه بالفاشية ( مع أنه لم يطبق الشريعة عليهم بعد ) ، ومقابل إعلانه الانتماء للأمة عبر دعم فلسطين وسوريا، جاءوا هم بحصار الفلسطينيين وطرد السوريين.
فكان هذا الامتداد الثوري بقيادة الحركة الإسلامية بشكل واضح، بل والحراك لا زال بدماء أبناء هذه الحركة في المقام الأول. لا أزعم أنهم وحدهم في الميدان، لكنني أزعم أن من يشاركهم اليوم يعلم أنه يشاركهم وراياتهم مرفوعة وهو راض بذلك داعم له.
محاولات سرقة الثورة من جديد
إن خصومنا في الداخل والخارج لم يستسلموا بعد، وإن بدأت ثقتهم تهتز في إمكانية استقرار الانقلاب العسكري، فهم يضعون الاحتمالات المختلفة لحماية وزيادة مكاسبهم، مع تقليل ما قد يضطرون إليه من إعطائنا بعض المكاسب. وذلك من خلال الممارسات التالية :
أولا : الشراكة بلا توبة
من قطاعات باعت الثورة ومكتسباتها، ودعمت الانقلاب العسكري، لتأخذ في ظل استبداد العسكر ما لم تأخذه في ظل حرية الثورة. وهؤلاء لم يتوبوا من جريمة الانقلاب، ولا من جرائمه في القتل والحبس والعدوان. ثم يزعمون أنهم أولى بالثورة، وأنهم يثورون اليوم ضد من انقلبوا معه أمس وأعطوه شرعية قتل الإسلاميين !!
ثانيا : الشراكة غير العادلة
فهم يريدون الشراكة على أساس قيادتهم للثورة، أو على أقل تقدير مشاركتهم الواضحة في القيادة. من خلال مشاركات عملية تبذل فيها أثمان هزيلة، لا يمكن أن توضع بجوار ما تبذله الحركة الإسلامية من تضحيات هائلة. فيكون الغرم علينا والغنم لهم.
ثالثا : الشراكة الإقصائية (ممارسة وهدفا)
فعندما رتبوا المشاركة مع شبابنا في بعض الفعاليات اشترطوا عدم رفع أي شعار يخصنا، حتى لو كان شعار [رابعة] لأنهم شركاء في المجزرة ( ولكن لم يمكن عمليا ما شرطوه فانسحبوا ) . وعندما خرجوا مع شبابنا في فعالية أخرى، قاموا بتوزيع منشورات تهاجمنا ( وكأن هذا الإقصاء مقبول مع الشراكة، والتي تتخذ سلما له فقط ) .
والأمثلة المذكورة تشير بجلاء إلى هدف تلك الشراكة، وهو إقصاؤنا بقدر الإمكان عن ريادة المشهد الثوري، حتى لا نكون البديل الوحيد لسقوط الانقلاب.
ولو أنهم تابوا عما اقترفوه، وشاركونا على الإنصاف، وجعلوا ذلك تعاونا على المصالح العليا، لا عداوة مستمرة متعددة الأشكال ضد كل من يرفع لواء شريعة الإسلام .. لو أنهم جعلوها انحيازا إلى هوية الأمة وحقوقها ضد من بغى عليها، لو فعلوا ذلك .. فلربما قُبِلت منهم شراكتهم.
صمامات الأمان
حتى نكون على مستوى المرحلة، ونستفيد من المعاناة، ونتجنب تكرار الأخطاء، ونحسن إدارة الأحداث، فنتحرك لمستقبل أفضل، هناك أربع صمامات أمان لا بد من تثبيتها :
أولا : القيادات الإسلامية الثورية
فهؤلاء هم الذين أثبتت الأحداث صواب رؤيتهم، وأثبتت المواقف صدق ولائهم للإسلام ولأمتهم. هم الذين رفعوا السقف الإسلامي بعد الثورة، وهم الذين أحسنوا فهم خريطة الأصدقاء والأعداء، وهم أيضا الذين تم استبعادهم ( من مواقع السلطة والتأثير ) من إخوانهم طلبا لتمرير الأعداء لهم .. ثم لم يمرروهم.
ثانيا : رصيد التجربة عند القواعد والكوادر الوسيطة
وهم الذين دفعوا أبهظ الأثمان في معاناة هذا الواقع، وعرفوا أن رؤية من سلموا لرأيهم وقرارهم لم تكن صوابا، وأن الحكمة المزعومة في منهج التعامل مع أطراف الواقع كانت سرابا، وأن نصحا كثيرا قد بذل موافقا للحق لم يلتفت له. هؤلاء معنيون بالتأثير على قيادتهم، وفرض منهج جديدعليهم، أثمرته التجربة بآلامها .. وأيضا بإيجابياتها.
ثالثا : إيغال الانقلابيين في العداوة
إذ لم يتركوا للصلح بابا، ولا للمواقف تأويلا. فقد غلبهم وهْم القوة، حتى أظهروا من أسرار عداوتهم لكل من يريد إقامة الشريعة ما كانوا في غنى عن إظهاره. ولكن أبى الله – تعالى – إلا أن يفضحهم، فأظهروا عداوتهم حتى لمن شاركهم في الانقلاب ممن يظهر الانتساب إلى الحركة الإسلامية. فضلا عن إيغالهم في الدماء، بل والتشفي فيها. وهذا التمايز على أساس الدين أنفع للمؤمنين، وهو من مقدمات النصر الرباني في مرحلتنا الحالية.
رابعا : رؤية السياق القدري للأحداث
فالحركة الإسلامية تتحرك بمجموعها نحو الأفضل، تزداد وعيا بطبيعة المعركة، وبمكان كل طرف فيها .. تستخرج منها أعلى التضحيات، وتزداد ثقة بقدرتها على الريادة .. تعيد فرز صفوفها، فتُدخل وتُخرج، وتُقدم وتُؤخر .. لتتأهل لدورها الذي تنتظره المنطقة كلها، لا مصر وحدها.
بل إن متغيرات المنطقة والعالم تتجه نحو فرصة تاريخية فريدة لصالح الإسلام والمسلمين، لا تخطئها العين. وإن من يتأخر عن التقدم اليوم لن تنتظره الأحداث، بل سيتقدم من يصطفيهم رب العالمين للوفاء بالواجب العظيم .. فالعالم على موعد مع الإسلام من جديد.
التعليقات