مشهد القوى بعد الثورة
عندما تنحى “المخلوع” عن حكم مصر ، برزت عندنا ثلاثة قوى داخلية في المشهد المصري : الأولى : جماهير الأمة التي راهن المستبدون على موتها ، فأثبتت أنها أبقى منهم وأقوى .
الثانية : الإسلاميون الذين راهن الطواغيت على إقصائهم عن أمتهم ، فأثبتوا أنهم حائزون لثقة أغلبية الأمة .
الثالثة : المؤسسة العسكرية التي كانت عنوان قوة النظام الحاكم وراهن على ولائها المطلق والدائم له ، فأثبتت أنها يمكن أن تتخلى عنه لجملة من المعطيات ، منها ألا تسقط معه فتخسر كل شيء .
كما برزت عندنا أقليتان :
الأولى : العلمانيون الذين كانوا يمثلون “ديكورا” في المشهد السياسي المصري ، لأنهم لا يحظون بقبول شعبي ، وتنحصر قوتهم في الدعم الأجنبي لهم على كافة المستويات سياسيا وإعلاميا واقتصاديا ، والذي أعطاهم صوتا وبريقا دون أرض حقيقية .
الثانية : النصارى الذين حازوا في دولة “المخلوع” أكبر مكاسبهم ، ثم اضطروا للتخلي عنه عند سقوطه ، ولهم كتلة متماسكة لا بأس بعددها ، تتحرك لأهداف طائفية في المقام الأول ، ويعتمدون على دعم الخارج بصورة لا تخفى على أحد .
واختفت قوة كان لها المركزية سابقا :
عصابة النظام المستبد ، من رجال الحزب الوطني المنحل . ورجال الأعمال الذين ارتبطوا بالنظام وأثروا من وراء ذلك . والأجهزة الأمنية التي عاشت تحمي النظام المجرم ، وقتلت من أجله الأرواح البريئة ، وتحالفت مع عتاة الإجرام في سبيل المصالح الشخصية . وسلاسل المنتفعين في أجهزة الدولة الرسمية ، والذين غذوا بالمال الحرام حتى كأنهم لا يعرفون لغيره سبيلا .
وهذه القوة اختفت مع هول الصدمة ، لكنها لم تزل ، كما أنه لم يتوجه لإزالتها أحد بالقوة الكافية ، فبقيت كامنة ، قابلة لإعادة نفسها إلى المشهد ، مترقبة معادلات الواقع الجديد .
معركة الرئاسة
ثم لما وصلنا إلى الانتخابات الرئاسية وجدنا ثلاثة اصطفافات ظاهرة :
الأول : على رأسه الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء لـ”المخلوع” ووراءه كل عصابة النظام السابق ، بالإضافة للكتلة النصرانية ، وبعض العلمانيين ، في ظل دعم قوي من أكابر المؤسسة العسكرية . وألقوا بثقلهم كله كي يفوز ولو بتزوير يمكن تمريره من خلال لجنة انتخابات رئاسية غير نقية .
الثاني : على رأسه الناصري حمدين صباحي ، وخلفه أكثر العلمانيين . وقد دعم ليسرق الشارع من الإسلاميين ويتسلق على المشهد الثوري أمام الإعلام .
الثالث : على رأسه د.محمد مرسي ، وخلفه الأكثرية من الإسلاميين ، وبعض العلمانيين الذين دعموه ضد شفيق المهدد بعودة النظام البائد . ففاز بفارق غير كبير .
اضطر العسكر لتسليم الرئاسة للمرشح الإسلامي بعد أن رفض بعضهم وبعض من في لجنة الانتخابات الرئاسية تزوير النتيجة لصالح “شفيق” وبعد أن كبلوه بـ”الإعلان الدستوري المكمل” ليكون رئيسا قليل الصلاحيات فيفشل في الواقع ، ويعمل الإعلام على إسقاطه بين الناس . استمرارا منهم في سياسة إعطاء الإسلاميين “مكاسب هشة” يسهل استلابها بعد ذلك ، كما فعلوا معهم في مجلس الشعب ، ما داموا مضطرين إلى إعطائهم شيئا ما لتمرير مرحلة مؤقتة .
إزالة استبداد العسكر
كانت أول رسالة حقيقية تصل للشعب أن د.مرسي صار رئيسا هي إلغاء الإعلان الدستوري المكمل وتنحية قيادات المجلس العسكري عن مناصبهم ، وكان الكافة إسلاميين وعلمانيين معلنين للتأييد ، لأن ذلك كان مطلبا مشتركا – ولو في الظاهر – .
في هذه اللحظة كان الرئيس يحظى بأعلى دعم شعبي ، وكانت أمامه فرصة تاريخية لضرب مفاصل عصابة النظام القديم ، لكنه لم يفعل ، وآثر معهم الطريق الطويل المتدرج .
تحريك المعادلة
من الخطأ الفادح أن تحاول كسب معركة بالنقاط في عشرين جولة ، عندما يكون خصمك حريصا على إنهائها بالضربة القاضية في الجولات الخمس الأولى .
فقد تعاون جميع خصوم المشروع الإسلامي ضده ، وسعوا سعيا حثيثا لإلباسه كل نقيصة ، مستغلين من يؤدي دور الشريك أو المتفاهم قبل من يؤدي دور المعارض الهادم . ومعهم ركائز ثلاث :
الأولى : وزارة الداخلية ، والتي جعلت عملها في حيز إيذاء المواطنين وإعناتهم ، مع عدم سعيها لإيقاف جريمة أو نجدة ملهوف . ليشعر الناس بالظلم وفقد الأمن في عهد الإسلاميين .
الثانية : اغتنام سوء الأحوال المعيشية والتدهور الاقتصادي ، والذي هو مركب من سرقات عصابة النظام السابق ، مع تركة العجز عن حكومة الجنزوري ، مع الفراغ الأمني الذي تصنعه الداخلية .
الثالثة : الإعلام العلماني ، سواء من خلال نفوذه في الإعلام الحكومي أو من خلال امتلاكه لأكثر وأكبر الفضائيات ، والممولة من العصابة القديمة أو من النصارى .
لحظة الضربة القاضية
فقبل أن يخرج دستور فيه مكاسب ضئيلة للإسلاميين أمام مكاسب غيرهم ، لكنه قد يمنح حكمهم شيئا من الاستقرار وفرصة الاستمرار ، ينسحب العلمانيون والنصارى من “التأسيسية” ليفككوا الوضع السياسي .
وتستغل ذكرى أحداث شارع محمد محمود لإحياء الاشتباكات برعاية وشراكة الداخلية ، وتجمع الجماهير بسبب الاشتباكات وضحاياها ، ليفككوا الوضع الأمني .
مع أن أكثر المنسحبين من التأسيسية كانوا قد وقعوا بالتوافق على ما ادعوا أنه سبب انسحابهم ، ومع أن أحداث محمد محمود الأولى كانت في ظل حكم العسكر الذين أطاح بهم د.مرسي . لكنها بدايات الضربة القاضية ، فاضطر الرئيس إلى أن يبادئهم بضربة قاضية تسبقها .
تحصين قرارات الرئيس
أصدر إعلانا دستوريا حصن فيه قراراته من أحكام القضاء ، ليبطل أثر سيطرة العصابة على المحكمة الدستورية العليا .
وحصن تأسيسية الدستور ، ليحقق الاستقرار السياسي ، ويبطل أثر انسحابهم .
وحصن مجلس الشورى ، حتى يكون بجواره في معاركه السياسية ، ولا يبدو فيها متفردا .
وأزاح النائب العام المعين من “المخلوع” والذي كان شريكا في حماية العصابة ، وحربا على الرئاسة المنتخبة ، بل كان احتفاظه بمنصبه بدعم المحكمة الدستورية بمثابة إعلان انتصار وتحجيم على الثورة والرئيس .
وعين نائبا عاما ، يعيد التحقيقات والمحاكمات مع رءوس العصابة ومجرميها ، لتكون رسالة بنجاح الثورة ، وليكون ذلك أداة قانونية لملاحقة وتحجيم المفسدين .
الانقسام الأخير
فلما وصلت المعركة إلى مشارف النهاية ، ظهر كل طرف بحقيقة تكوينه ، واستقر تقسيم القوى في الواقع – باعتبار حقيقة ما يدور الصراع حوله – إلى فئتين :
الأولى : خصوم الشريعة
من أقصى اليمين الليبرالي ، إلى أقصى اليسار الشيوعي ، مع كامل الدعم الكنسي ، والحشد من “فلول” العصابة القديمة .
الثانية : أنصار الشريعة
وهم مجموع العمل الإسلامي ، وجماهير الشعب المتعاطفة معه من جهة ، ومع الاستقرار من جهة أخرى .
وهذا التقسيم باعتبار رؤوس القوى الممثلة لكل فئة ، وللتفصيل شأن آخر . فهناك من ينضمون للفئة الأولى مع عدم خصومة ظاهرة أو باطنة مع الشريعة ، كما أن هناك من ينضمون للفئة الثانية مع عدم نصرة كاملة للشريعة . لكن على كل فرد أن يختار الفئة التي يكثرها ، وأن يتحمل تبعات هذا الاختيار ومآلاته في الدنيا والآخرة .
أما المؤسسة العسكرية حتى الآن على الحياد ، مع أنها قد طالبها العلمانيون بالتدخل ضد الرئيس الإسلامي ، كما سبق لهم أن طالبوا المجلس العسكري – أيام حكمه – بحمايتهم ضد الأغلبية الإسلامية .
آليات الصراع العلماني
يعمد العلمانيون إلى ما يلي :
أولا : الحشد العددي في الاحتجاجات
وهم في ذلك يستغلون أعداد النصارى ، ومن تستعملهم العصابة القديمة من “البلطجية” و”المأجورين” . وذلك لإلباس انقلابهم ثوبا شعبيا .
ثانيا : تكريس الفوضى في الشارع
وذلك من خلال التعاون بين أركان مثلث الإجرام : الداخلية ، ورموز الوطني المنحل ، والبلطجية . وهوتعاون قديم ومعروف في الشارع المصري . وذلك لمنع تجاهل احتجاجاتهم ، ولتكثير الساخطين على الوضع القائم . إعمالا لسياسة كل مستبد “أنا أو الفوضى” .
ثالثا : الإعلام المعادي للإسلاميين
فيبالغ في عرض قوة وكثرة وتأثير ومزايا خصومهم ، ويغض الطرف عما يضعف ذلك مما عند الإسلاميين ، أوحتى من سقطات العلمانيين القاتلة . ليساهم في زيادة جمهور الخصوم ببعض المستغفلين ، أو على الأقل يمهد السبيل لبروز واستبداد العلمانيين مرة أخرى .
رابعا : محاولة شل الدولة بالإضرابات
وقد بدأوا ذلك في بعض الدوائر القضائية ، وسيسعون لزيادة مساحتها ، وتنويع المشاركين فيها ، وتسليط الضوء عليها . في محاولة لاستلاب الشرعية من الرئاسة ، وتعجيزها أمام الشعب .
خامسا : الغطاء السياسي العلماني
والذي يحاولون جمع أكبر عدد ممكن إليه ، مع عدم تناسقه المفضي إلى عجزه عن تقديم أي نموذج بديل للنموذج الإسلامي . لكنهم يريدون أن يبدوا كأصحاب القضايا المعارضين ، لا كأصحاب المطامع المفسدين .
سادسا : استدعاء الخارج واستعداؤه على الإسلاميين
لحمايتهم من الإسلاميين ومن الشريعة التي يريدونها ، بل تسولوا الدعم الخارجي بـ”الهولوكوست” في فضيحة لن ينساها لهم التاريخ . كل ذلك لأنهم يعلمون أن قوة الإسلاميين داخلية ، وأنهم لا يدافعونهم إلا بالقوة الخارجية التي تعتبرهم رسل العناية الغربية .
حتى ننتصر
فعلى الرئيس خاصة ، وعلى الحركات الإسلامية عامة – إذا أرادوا الانتصار في هذه المعركة – ما يلي :
أولا : الاهتمام بالأسباب الإيمانية للنصر
من الإخلاص وعبادات السر ، فإنها عنوان التوفيق . وإنا لسنا كخصومنا ، فلا ننصر إلا بذلك .
ثانيا : الثقة والتفاؤل
فلولا الله ماكان شيء من هذا الخير قد وصل إلينا وإلى أمتنا . بل إن ضعف أسبابنا الأرضية كان يمنع بعضنا من تخيل زوال حكم أولئك الطواغيت المتجبرين ، مع مدافعتنا لهم امتثالا لواجب الشرع . فكيف وقد أرانا الله مصارع الظالمين ..؟!
ثالثا : إعلاء المصالح الشرعية العليا والاجتماع عليها والتشاور لنصرتها
فإن الالتفات إلى المصالح الشخصية والفئوية في مثل هذه المواطن ، مدعاة للتفرق ، ومجلبة للهزيمة . والتشاور من منطلق الشراكة في الهدف والمصير ، سبب لصواب الرأي ، وجمع الكلمة ، خاصة في موطن الخطر .
رابعا : تقديم مكاسب سريعة وملموسة إلى عموم الشعب
فقد طالت معاناة الناس ، وبذلوا الأثمان الباهظة ، فإن لم يجدوا منا الإحسان الذي ينتظرونه ويريدون أن يشعروا به ، كان ذلك فتنة لهم . ولربما فضهم ذلك عن حق يحبون الانحياز إليه ، وأمالهم إلى باطل ، طمعا في عيش ينالونه في ظله .
خامسا : السعي في فك تحالفات الإضرابات
بكل السبل السياسية والاقتصادية والقانونية المتاحة ، حتى لا ينجحوا في تصوير أنهم فككوا الدولة .
سادسا : إيجاد مؤسسات شعبية بديلة
لتلك التي يسيطر عليها الخصوم ، حتى لا ينفردوا بتمثيل أي فئة من المجتمع .
سابعا : تحقيق الأمن في الشارع وإنهاء الفوضى
وذلك بتطهير الداخلية وتصعيد العناصر الصالحة فيها ، وضبط المخابرات العامة وضمان تعاونها مع الرئاسة ، لا ضدها . وهذا أمر يحتاج إلى حزم كبير ، وقد لا يقدر عليه الرئيس إلا بمعونة المخابرات الحربية . فالمهم هو أن يشعر الإنسان بالأمان الذي يعينه على الاستقرار والعمل ، وأن تشل جيوش “البلطجية” التي ذكرناها من قبل .
ثامنا : منع التزييف الإعلامي
وذلك بمحاسبة الإعلاميين على ما قالوه سابقا ، وعلى ما يقولونه الآن ، محاسبة عادلة وعلنية وعاجلة . ليتوقف سيل الأكاذيب ، ويرتدع من تسول له نفسه أن يكون من جملة أعوان المجرمين .
تاسعا : التفاوض من موقف قوة مع بعض العلمانيين
لتفكيك جبهتهم المزيفة متعددة المطامع ، فهذا سيدفع الباقين لتمني ذلك ، وسيرضون حينها بالمكاسب المتناسبة مع قوتهم الحقيقية ، ولو إلى حين . فنكون قد أخذنا بأيدي أهل بلدنا إلى مخرج من محاولات الدمار الشامل .
عاشرا : استمرار الفعاليات الشعبية
وعدم ترك الشارع للعلمانيين ، لتكريس المشهد الصحيح الذي يحاولون التشغيب عليه ، وهو انحياز جماهير الأمة للخيار الإسلامي .
وأخيرا : السياسة حرب بطريقة أخرى
هي حكمة صدق قائلها . والموقف الحالي هو الصورة الجلية للحقيقة التي تسترت تحت أشكال مختلفة . فلنتعامل بمقتضى الحقائق ، ولنرفض الأمنيات التي أثبت الواقع عدم جدواها . ولنعلم أنه ليس لنا بعد الله إلا أبناء أمتنا فنحن أولى الناس بهم . فإن الحق لا ينتصر إلا بقوة .
التعليقات