أخي الحبيب .. أيها الإنسان المكرم .. أيها المسلم التائب .. أيها المؤمن السائر إلى ربه .. اعلم – وقبل كل شيء – أنك عبد مربوب لله – عز وجل – يمضي قيك قوله – تعالى: “إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” [القمر-49] .. فخلقه – عز وجل – للناس بقدر، وهدايته – سبحانه – للصالحين بقدر، وإضلاله – تعالى – للغاوين بقدر ..
اختيار .. واختيار
وهل أنا وأنت أخي إلا أفراد من ملايين البشر من خلقه – تعالى -؟! لكننا نرجوا أن يصطفينا ربنا من جملتهم، وأن يهب لنا إيمانا يرضيه عنا .. وقد قال – عز وجل “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ” [القصص-68] فكما أنه المنفرد بالخلق، فهو المنفرد بالاختيار من خلقه. وإنما المراد بالاختيار هاهنا : الاجتباء والاصطفاء، فهو اختيار بعد الخلق. والاختيار العام : اختيار قبل الخلق، فهو أعم وأسبق. وهذا أخص، وهو متأخر، فهو اختيار من الخلق. والأول اختيار للخلق ..
إرادة .. بعلم وحكمة
واذكر أخي أن كل ما ارتبط بإرادته – تعالى – فهو جارٍ وفق حكمته البالغة التابعة لكمال علمه – عز وجل – قال – تعالى “إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ” [الأنعام-83] فهو – سبحانه – أعلم بمواقع اختياره، ومحالّ رضاه، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه ..
سنة موجودة .. ومُشاهدة
فاصطفاء أهل الإيمان .. سنة ربانية موجودة في الناس، بل ومُشاهدة، وضدها كذلك .. فعن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – قال : “حدثنا رسول الله حديثين، قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر : “حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر [ أي: أصل ] قلوب الرجال. ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة، فقال : ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثره مثل الوكت [ أي: سواد في اللون ]. ثم ينام النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها المجل [ أي: أثر العمل في اليد ]، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا [ أي: ورم وامتلأ ماء ] وليس فيه شيء. ثم أخذ حصاة فدحرجه على رجله. فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال : إن في بني فلان رجلا أمينا. حتى يقال للرجل : ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان” ولقد أتى علي ّ زمان وما أبالي أيكم بايعت، لإن كان مسلما، ليردنّه عليّ دينه. ولئن كان نصرانيا أو يهوديا، ليردنّه علي ساعيه. وأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا.” [ متفق عليه ] .. فهذه شهادة من حذيفة – رضي الله عنه – وقد توفي في أول سنة ست وثلاثين من الهجرة ..
أمانة .. وأمانة
والأمانة في الحديث هي الأمانة في قوله – تعالى “إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ” ( الأحزاب-72 )وهي عين الإيمان، إذ هو أمانة الله – عز وجل -، وأمانة العباد فرع عن أمانة الله – وبينهما علاقة، ليس هذا موضع الكلام عنها -.
الشيء الخطير !
لكن الشيء الخطير في هذا الحديث، هو أن الله – تعالى – يغرس الإيمان في أصل قلوب رجال .. ثم هو – عز وجل – ينزعه من قلوب رجال وهم نيام .. فلماذا؟!
إن الإيمان بالله – عز وجل – : معرفته بكماله وجماله، واستحضار عظيم شأنه – تعالى – ومحبته والشوق إليه والأنس بذكره، والتذلل بين يديه، والتقرب إليه بما يرضيه، مع اليقين والتوكل عليه بالكلية .. إن هذا الإيمان أعظم وأشرف شيء يكون عند المخلوقين. والله – تبارك وتعالى – لا يجعله إلا في القلوب التي تليق به ويليق بها .. فما ميزان ذلك الاصطفاء؟
الأوائل المُفضَّلون
إن أول وأفضل من غرس الله – عز وجل – الإيمان في أصل قلوبهم، هم رسله – عليهم الصلاة والسلام – قال – تعالى ” اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النّاسِ” ) [الحج-75] فالرسول من الملائكة صفوة الملائكة، والرسول من الناس صفوة الناس. والله هو الذي اختارهم واصطفاهم دون غيرهم من باقي خلقه – تعالى – ..
ولأهل الإعراض .. اعتراض
فقد اعترض ناس من قبل، على ميزان الله في الاختيار لنبيه – صلى الله عليه وسلم ” وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ” [الزخرف-31] .. وهؤلاء المعظمون عنهم، إنما عظموهم لما رأوا أن الله قد خصهم بشيء من نعيم هذه الدنيا من مال وجاه ونحوهما، فظنوا أن ذلك العطاء تفضيل لهم، وليس كذلك.
فلهذا استنكر الله عليهم هذا التعجب – والذي في ضمنه النفي – من اختياره لمحمد – صلى الله عليه وسلم – فقال – تعالى “أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.” ) [الزخرف-32] فالاختيار مردّه إلى الله، والعظيم حقا هو من اختاره الله ليكون في رحمته – تعالى – . ولتسقط موازين العباد الجُهّال، وليثبت ميزان الرب الرحمن .. فـ”إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب” [كما صحّ عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه -] .
الميزان .. بالإخلاص
أشار إلى ذلك الميزان الإمام البخاري – رحمه الله – لما افتتح “الصحيح” بكتاب “بدء الوحي” – إذ السنة شق الوحي – فقال : “باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -؟ وقول الله – جل ذكره “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ” ) [النساء-163]” ..
فتساءل عن الكيفية، وأثبت في أول الجواب اتحادها بين الأنبياء، ابتداء من نوح – عليه السلام – أول الرسل [كما في حديث الشفاعة] فمَن بعده من الأنبياء ، وإلى محمد – صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين – ..
ثم ذكر حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : “إنما الأعمال بالنيات …” فتعجب طائفة من أهل العلم لإيراد هذا الحديث في هذا الموضع!!
لكن الحافظ ابن حجر – رحمه الله – ذكر أجوبة، كان من ضمنها قول “أبي عبدالملك البوني قال : مناسبة الحديث للترجمة أن الوحي كان بالنية، لأن الله فطر محمدا – صلى الله عليه وسلم – على التوحيد وبغّض إليه الأوثان، ووهبه أول أسباب النبوة وهو الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء. فقبل الله عمله، وأتم له النعمة. وقال المُهَلّب ما محصله : قصد البخاري الإخبار عن حال النبي – صلى الله عليه وسلم – في حال منشئه، وأن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزم الوحدة فرارا من قرناء السوء، فلما لزم ذلك، أعطاه الله على قدر نيته ووهب له النبوة. كما يقال : الفواتح عنوان الخواتم. ولخصه بنحو من هذا القاضي ابن العربي.”
فكان اصطفاؤه – صلى الله عليه وسلم – بالنية .. بالإخلاص .. بشكر نعمة الله، بأداء حقها ابتغاء لمرضاة الله – تعالى – دون تفريط، ودون نظر إلى حظ نفس مهما كان .. وكذلك اصطفِي الأنبياء من قبل ..
فهم سلفيّ
فقد فهم هذا الميزان الرباني فقهاء الصحابة، فعبّر عنه واحد من أعلامهم، وهو عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – فقال : “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فبعثه برسالته” [صحيح عنه – رضي الله عنه -] .. فهذا ميزان الاصطفاء الإيماني.
وهناك عبادة .. للمكانة
إذ بضدها تتبين الأشياء، والضد يظهر حسنه الضد .. فهذا الميزان الرباني، وذلك االصفاء والإخلاص القلبي قد لا يروعك بهاؤه إلا حين تقارنه بضده .. وكم لذلك الضد من نظير ومثيل ..
إنه أبوعامر عبدعمرو بن صيفي سيد الأوس قبل الإسلام، والذي كان قد تعلم وقرأ الكتب السابقة فعرف أن نبيا قد أظل زمانه، وطمعت نفسه أن يكون صاحب هذا المقام الرفيع، ليس إخلاصا وشكرا لله – عزوجل – بل لحظ نفسه وترؤسها على المخلوقين، فجد لذلك واجتهد، وتزهد وتعبد،ولبس المسوح، حتى لقب بأبي عامر الراهب لكثرة عبادته ..
كل هذا ومحمد بن عبدالله – صلى الله عليه وسلم – أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما قال – تعالى: ” وَمَا كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْله مِنْ كِتَاب وَلَا تَخُطّهُ بِيَمِينِك إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” ) [العنكبوت-48] ومن ثم لم يكن له طمع ولا تطلع لمنزلة خاصة ينال بها الرئاسة على الخلق، فلم ينتظر رسالة ولا كتابا، قال – تعالى – :”وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ” ) [القصص-86] بل كما قال – صلى الله عليه وسلم – للملك يوم نزل عليه أول مرة : “ما أنا بقارئ” .. وقال لزوجه خديجة – رضي الله عنها – : “لقد خشيت على نفسي” .. ولم يعرف حقيقة هذا الخبر الذي حصل حتى قال له ورقة بن نوفل : “هذا الناموس الذي نزل الله على موسى” .. ومع ذلك كان “يتحنث – وهو التعبد – الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء” [البخاري] .. فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يتعبد شكرا ويتذلل حبا لمولاه .. غافلا عما سواه .. حتى جاءه أمر الله – عز وجل – ..
مسوح راهب .. وقلب فاسق
فما كان لنا أن ننتظر من أبي عامر بعد البعثة النبوية إلا أن يكون من أول المؤمنين برسالته – صلى الله عليه وسلم – والناصرين لدعوته، لسابق نعمة الله عليه بالعلم بالبشارات حول إرساله – صلى الله عليه وسلم – كما قال ورقة بن نوفل للنبي – صلى الله عليه وسلم – وتمنى : “يا ليتني فيها جذعا (أي: شابا صغيرا قويا) ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “أو مخرجي هم؟” قال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك، أنصرك نصرا مؤزرا” .. لكن “لم ينشب ورقة أن توفي” [البخاري] ..
لكن أبا عامر كان يتعبد لمراده لا لمراد ربه، ولحظ نفسه لا لحق ربه .. فكفر بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وعاداه، ولسان حاله يقول : “أتعب ويُعطَى غيري ! أتعبد ويُختار سواي ! أجتهد لأقود فيُطلب مني أن أُقاد !.. لا كان ذلك أبدا”. والله – عز وجل – يقو ” اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ” ) [الأنعام-124]
وهكذا لما افترق الطريقان : طريق الله، وطريق النفس. اختار أبو عامر طريق نفسه ورضي بالخروج عن طريق ربه، فاستحق أن يُسمى : أبو عامر الفاسق – أي : الخارج عن طاعة الله -.
بل بلغت به العداوة أن ينحاز إلى كفار قريش ويخرج معهم لقتال النبي – صلى الله عليه وسلم – وقومه من الأنصار المؤمنين – رضي الله عنهم – في غزوة أحُد، يظن أنه بذلك يدفع قومه من الأوس لترك رسول الله – صلى الله عليه وسلم -. فلما ردوا عليه أسوأ ردّ، قاتلهم بعدُ قتالا شديدا، بل هو الذي حفر الحُفَر مكيدة للمسلمين، والتي وقع النبي – صلى الله عليه وسلم – في إحداها ..
فما أبعد المسافة بين أوحال النفس والتي تبينت في حياة هذا الرجل .. وبين صفاء الإخلاص الذي تجلى في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – والذي كان يقوم من الليل حتى تتفطّر قدماه، فإذا كُلم في ذلك قال : ” أفلا أكون عبدا شكورا” [متفق عليه] صلى الله عليه وسلم ..
ثم للمؤمنين .. درجات
لكن هذا الاصطفاء أخي ليس مختصا بالأنبياء والمرسلين، بل هو سارٍ في المؤمنين والصالحين بدرجات متفاوتة تتناسب مع ما في قلوبهم، لذلك أكمل ابن مسعود – رضي الله عنه – كلامه معمما بضرب أعظم مثال بعد الأنبياء، فقال : “ثم نظر في قلوب الأنبياء بعد قلب محمد – صلى الله عليه وسلم – فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه” [صحيح عنه] إذ الصحبة شرف عظيم سبقوا به من جاء بعدهم، يكفي في ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – : “خير الناس قرني” [متفق عليه] وقال : “لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو لأنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه” [متفق عليه] .. قال ذلك لصحابي تأخرت صحبته وهو خالد بن الوليد لما أساء إلى صحابي من السابقين وهو عبدالرحمن بن عوف، هذا وكلهم صحابة!.. فكيف بمن بعدهم ممن لم ينل شرف الصحبة؟!.. من يكون عنده مثل جبل أحد من الذهب ثم تجود نفسه به فينفقه في سبيل الله – تعالى – ؟! إنه لو بلغ هذه المنزلة الرفيعة لم يدرك ثواب إنفاق المدّ – أي : ملء كفّي الرجل المتوسط – بل ولا نصف الندّ مما أنفقه في سبيل الله أولئك الذين اختصهم الله بهذه المنزلة الإيمانية الرفيعة !!..
هناك ابتلاء .. واصطفاء
وكما اعترض الجاهلون بميزان الله المحجوبون عن أنواره على اختيار الأنبياء، اعترضوا أيضا على اختيار أتباعهم من المؤمنين، من زمن نوح” فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا” فلأي شيء تُختار للرسالة؟! ” وَمَا نَرَاك اِتَّبَعَك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلنَا” فهم ناقصوا الأقدار في ميزان حياتنا (بادي الرأي) ظاهره دون تفكروتثبت وذلك لنقص عقولهم – بزعمهم – فلأي شيء يُختارون ليكونوا أوائل المؤمنين؟! ” وَمَا نَرَىَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ” ليخصكم الله بهذه الرحمة والفضل والتشريف دوننا، وقد خصّنا بكثير من نعم الدنيا” بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ “ [هود-27] ..
وهذه النتيجة بعد تلك المقدمات بقيت شبهة يلقيها الشيطان على ألسنة أوليائه حتى زمن آخر المرسلين محمد – صلى الله عليه وسلم – فأمره ربه – تعالى – ووجّهه قائلا : ” وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبّهمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونه وَلِيّ وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” [الأنعام-51] .. ثم نهاه وحذره” وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْحِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ...” [الأنعام-52] .. وأخيرا ذكر – تعالى – سنته في الابتلاء وحكمته في الاصطفاء قائلا “وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين” [الأنعام-53] ؟!..
بلى إن الله أعلم بالشاكرين، الذين في قلوبهم الصادقة إخلاص ووفاء يحول بينها وبين لؤم عدم شكر أعظم نعمة ينعم الله بها على خلقه .. نعمة الإيمان ..
لقد اختار الله شاكرين بذلوا في الشكر الأرواح والأبدان، والأهل والأموال، بذلوا ما في وسعهم، وعلموا أن ذلك فضل الله عليهم، وأن المنة له لا لهم ” : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ” [الحجرات-17]
لذا قال حاديهم :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فـأنزلــن سكينــة علينـــا وثبت الأقدام إن لاقينـا
إن الأولي قد بغوا علينـا وإن أرادوا فتنة أبينـــا
فأين أنت ؟
إن فاتتك أخي منزلة من منازل الدين، وموطن قرب من رب العالمين، وحال من أحوال المؤمنين .. وإن رأيت أخي غيرك قد أُعطِي وحُرِمت، وفُتِح له الباب ومُنِعت .. وإن أردت أخي أن تعرف السبب .. فاقرأ على نفسك ذلكم الميزان الإيماني الصادق الذي به يُصطفَى المؤمنون والأولياء” أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ.” [الأنعام53] .. ثم اجتهد بعدُ أخي أن تلحق بركبهم، وأن تدخل في زمرتهم .. وانظر إلى قلبك وعملك، فإنهما محل نظر الرب – تبارك وتعالى – ..
واعلم أخي أنك لا تُظلم” إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِم النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” ) [يونس-44] بل” إِنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا “[النساء-40] .. فإنما هي أحوال العباد “وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” [الكهف-49] .. فتأمل أخي في حالك، ولا تغفل عن نفسك، وليكن همك : أين مكانك من ربك – عز وجل -؟
واحذر .. الزوال أو النقصان
وهو المذكور في الحديث الثاني “حدثنا عن رفع الأمانة” [متفق عليه] .. فإن الإيمان ليس حقا مكتسبا لا يزول، ولا هو ملك ثابت لا يتحول عن صاحبه .. إنما هو عطاء من رب الأرض والسماء لمن يصطفيه من عباده .. ثم هو نعمة تُزاد بالشكر، وتُزال بالكفر ..
فاحذر الزوال، وخف من النقصان .. فوالله ما رفع الله – عز وجل – إيمانا من قلب، إلا لتقصيره في شكر هذا الإيمان، قال – تعالى ” ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” الأنفال-53] .. بل إن الأمر كما قال ربنا – تبارك وتعالى ” وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ” [الشورى-30] ..
فكم من إيمان قد أزاله عصيان .. وكم من طاعة قد تسبب في الحرمان منها ذنب .. وكم من شهوة قد أورثت حزنا طويلا ..!
فإن لله آيات .. تدلّ
إن أحببت أخي أن ترى مصداق ما ذكرتُ لك، من اصطفاء الله لأهل الإيمان بحكمته لما قد علمه من صفاء قلوبهم وإخلاصها في شكر نعمة ربها .. فاقرأ قوله – تعالى ” إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (30)﴾ … يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً “ [الإنسان-29 : 30] فالله يدخل بحكمته المؤسسة على علمه من يشاء في رحمته، أما المحرومون من ذلك، الذين لم يشأ الله أن يطهر قلوبهم، فإنما أعرض عنهم لما علمه من ظلمهم، الذي هو صفتهم وكسبهم ..
واقرأ قوله – تعالى ” أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ” [الزُمَر-22 : 24] لتعرف أن أصحاب القلوب اللينة لذكر الله هم من يشرح الله صدورهم للإسلام فيكونون على نور من ربهم، وأن علامة هدايتهم أثر القرآن عليهم قلوبا وأبدانا، خوفا ورجاء، وأن سبب هدايتهم خوفهم من سوء العذاب يوم القيامة. ولتعرف في المقابل أن أصحاب القلوب القاسية من ذكر الله هم أهل الضلال المبين، وأن الذي يضله ربه فتفوته الهداية الإيمانية الموصوفة في الآيات لن يجد أحدا يهديه من بعد الله، وأن سبب ذلك ما اكتسبه من ظلم يجازيه عليه ربه – عز وجل – ..
ثم اقرأ بعدُ وحدك قوله – تعالى”وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ(7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [الحجرات-7 : 8] وأترك لك أخي فهمها .. كما أترك لك أدلة كثيرة أخرى تراها في الوحي قرآنا وسنة ..
وله – عز وجل – .. أسماء تشهد
فإن أسماءه الحسنى – تبارك وتعالى – تشهد بذلك … فهو – سبحانه – الخالق لكل شيء، للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم. والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل الشر والسوء. والرب – سبحانه – هو الذي جعله فاعلا لذلك، وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب. فجعله فاعلا خير، والمفعول شر وقبيح. فهو – سبحانه – بهذا قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها، فهو خيروحكمة ومصلحة، وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا. وهذا أمر معقول في الشاهد، فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه كان ذلك منه عدلا وصوابا يُمدَح به، وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب يذم به المحل.
وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها، فمن وضع العمامة على الرأس، والنعل في الرجل، والكحل في العين، والزبالة في الكناسة، فقد وضع الشيء في موضعه، ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلهما.
ومن أسمائه – سبحانه – الحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه، وفي كل ما وضعه في محله وهيأه له، وهو – سبحانه – له الخلق والأمر، فتبارك الله رب العالمين.
وفي أحوال الخلق .. عبرة
فمن تأمل أحوال الخلق، رأى من اختيار الله وتخصيصه فيه ماهو دالّ على ربوبيته – تعالى – ووحدانيته، وكمال حكمته وعلمه وقدرته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، فلا شريك له يخلق كخلقه، ويختار كاختياره، ويدبر كتدبيره. فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته، وأكبر شواهد وحدانيته، وصفات كماله، وصدق رسله، فذوات ما اختاره الله واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليست لغيرها، ولأجلها اصطفاها الله ..
فإذا أردت أخي بداية للهداية .. فلتسع قبل البداية للاصطفاء، بأن :
1-املأ عين قلبك بالآخرة وخلودها، وفرّغها من الدنيا الزائلة.
2-اقطع كل طمع يتعلق بغير الله، ولينجذب إليه قلبك بكليته.
3– طهّر القلب من الانشغال بالأغيار، ليصلح لبذر الأنوار.
4-كن طالب استقامة، لا طالب كرامة.
5-كن طالب عبادة، لا طالب زعامة.
6-اشكر الخير الموجود، لتنال الفضل الموعود.
7-إذا أردت أن تعرف مقامك، فلتنظر في أي شيء أقامك؟
التعليقات