“وهم” .. الواقع في مصر

من الناحية المادية المجردة، فإن ما كان أقرب إلى الجلد كان الإحساس به أكثر، وما كان أقرب إلى العين كان في نظرها أكبر، لكن هذا لا يعني دائما .. كل الحقيقة، أو حتى معظمها.
إن الإحساس والنظر وغيرهما ستبقى وسائل لنقل أجزاء من الحقيقة. أما تكميل تلك الأجزاء، وتوزيع النسب بينها، لنصل إلى الصورة الأقرب إلى الحقيقة، فسيبقى دور القلب الذي يعقل.
والتمييز بين الحقيقة والوهم في الواقع، له قيمة كبيرة، ليس فقط على مستوى الفهم إنما أيضا على مستويات الشعور والقرار.
لذلك قال الله – تعالى  ‏{‏‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران – 175] تقريرا للتالي :

أولا : في الواقع أعداء حقيقيون (وهم أولياء الشيطان) .

ثانيا : دور الشيطان هو بناء “وهم” حول هؤلاء الأعداء فنراهم واقعا كبيرا قويا، فنستصغر أنفسنا أمامهم، فنهزم أو نضعف بالخوف حتى من قبل أن نتعامل مع ذلك الواقع .

ثالثا : دور الوحي هو تخليص الحقيقة من الوهم، فوجود قوة للأعداء لا يعني أنهم القوة الأكثر تأثيرا، بل ربكم – عز وجل – الذي يأمركم بمدافعتهم، ويتولاكم ويعدكم بنصرته، هو الذي يملك أمركم وأمرهم، ويدبر ذلك بسننه التي دلكم عليها .

رابعا : المؤمن هو من تتزن رؤيته ومشاعره فيرى الواقع من خلال الوحي، فينتقل خوفه من الوهم إلى الحقيقة (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين) فينهض للأمر الشرعي بالمدافعة، محطما ومتجاوزا الأوهام التي يحاول الشيطان أن يخوفه من خلالها .
إن كل أطروحات الاستسلام والتي يحاول البعض ترويجها في ظل الانقلاب العسكري في مصر، هي ثمرة ذلكم الوهم والتخويف الشيطاني. وهي امتداد لأطروحات الاستسلام التي كانوا يروجون لها قبل ثورة 25 يناير، والتي تنتهي إلى الاستسلام لقوة الاستبداد، ومحاولة التعايش مع الطغيان .
وهل كانت خيانة البعض إلا من خلال “وهم” الواقع هذا .. فطلبوا العيش في مركب الانقلابيين؟ فكانوا امتدادا للكثير من مواقف الخيانة في تاريخ الأمة، وبسبب نفس “الوهم” الذي استسلموا له جميعا .
وهل كانت الرسالة إلا ثورة على “وهم” قوة الواقع واستقراره وبقائه؟ وكذا كل حركات التجديد والتحرير في الأمة كانت ضد ذلك “الوهم” ذاته .
إن الحركة الإسلامية المعاصرة ما قامت إلا لتزيل “وهم” الخرافة والبدعة، و”وهم” سيطرة الكفار، و”وهم” انتهاء الخلافة، و”وهم” تنحية الشريعة .. إلى آخر “أوهام” الواقع التي يظهر بها الباطل في الأرض .

ألم يرنا الله – عز وجل – كيف زال ملك المخلوع وولده في ثورة 25 يناير، بعد أن توهم الناس أن سلطان هؤلاء دائم، وأنهم سيتوارثون الرئاسة؟ ألم يكونوا أقوى في الواقع من الانقلابيين الذين لم يستقر لهم ملك ولم يجتمعوا على رئيس ولم يستسلم لهم شعب؟ ألم يضطر خصومنا في الداخل والخارج إلى تسليمنا الرئاسة لمدة عام حتى يغيروا شكل الأرض، ويعيدوا ترتيب معادلات التأثير في الواقع، ثم انقلبوا بعد عام؟
إن أسرى “وهم” اللحظة الراهنة لم يتعلموا من تغيرات الماضي، لذلك فهم لا يرون المقادير الحقيقية لموازين القوة في الواقع، وهم أبعد الناس عن استشراف مستقبل مختلف، فضلا عن أن يكونوا صناعا لمستقبل أفضل لأمتهم .

وحين نتجاوز بأمتنا هذا “الوهم” الباطل، سنتجاوز أيضا كل من ربطوا مصيرهم بهذا الباطل، وسيبقى المؤمنون الذين تحرروا من الباطل و”وهمه” . كما بقي ابن تيمية – رحمه الله – يحيي الدين ويجدده للأجيال، ويخرج هذه الأجيال للأمة عبر الزمن، رغم أنهم حبسوه حتى مات. وكما بقي سيد قطب – رحمه الله – يزلزل عروش طواغيت الأرض، رغم أنهم حبسوه ثم قتلوه شهيدا – نحسبه كذلك، والله حسيبه

[ وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ] [الإسراء – 81] .


التعليقات