التيار السلفي ..
اسمه فقط يدلك على أن هناك ميراثا هو معنيّ بالمحافظة عليه، وما اشتهر به من اهتمام بالتعليم وتحذير من البدع .. يشير إلى صفاء الدين الذي يتوق إليه الكثيرون. واليوم – أكثر مما مضى – تتجدد التساؤلات عن محكمات الدين وثوابت السنة التي ينشرها التيار السلفي، خاصة وقد مر بمراحل متعددة خلال زمن قريب نسبيا، وهل أطروحات التجديد أو المراجعة تصوّب الرؤية والمسار أم تحرفهما عن الجادة؟.. في محاولة للإجابة عما سبق، جاءت هذه الكلمات.
ماهي المحكمات؟ وما قيمتها؟
المحكمات هي الثوابت القطعية من الدين والسنة، وتقترب منها الخيارات التي تعد مخالفتها شذوذا وزللا، وهذا في المسائل والدلائل جميعا. وليست الاجتهاديات التي بها راجح ومرجوح منها، لاعتبار الخلاف فيها.
أما قيمتها .. فإنها تمثل قوام الدين الذي يحفظه، ومرجعه الذي يردّ إليه متشابهه. ولولاها لما ميّزنا حقا عن باطل، ولكان التيه مصير البشرية في ظل نسبيّة لا ضابط لها.
مرحلة توسيع المحكمات :
ومع انتشار التيار السلفي في بلادنا .. كثرت المحكمات في حس أبنائه وتنوعت، ولم تنضبط علميا بالصورة المطلوبة، وذلك عند الكثيرين، خاصة مع تبعثر التيار عمليا. فشملت خيارات اعتقادية وفقهية وأصولية بل ودعوية، مما يحتاج إلى المناقشة.
فقد اشتهر مثلا في التيار أن من المحكمات الاعتقادية : تحريم المشاركة في المجالس النيابية تبعا لتحريم الحكم بغير ما أنزل الله، وعدّوا ذلك كله شركا. دون أن يفرقوا في الرتبة بين الأصل وفرعه، ودون أن يفرقوا في الحكم بين الأصل والاستثناء، ودون أن يلتفتوا إلى أن أشهر العلماء الذين نصوا على أن الحكم بغير ما أنزل الله (في التشريع) كفر أكبر، هم أنفسهم سوغوا مثل هذه الممارسة استثناء للضرورة أو للحاجة العامة.
واشتهرت خيارات فقهية عوملت كمحكمات، منها مثلا : تبديع استعمال المسبحة. فلو أظهر المسبحة ملتحٍ لنظروا له شزراً، ولوقع في قلوبهم أنه ليس على السنة !!.. مع أن ظهور المسبحة قديم، ولم يتم تبديع استخدامها عند السلف المتقدمين، بل عاملوها معاملة الوسائل التي لها أحكام المقاصد، والتي غيرها (التسبيح باليد) خير منها لمن تيسر له ذلك. فكيف يذكرها المتقدمون ولا يبدعونها، حتى يأتي معاصرون فيبدعونها، بل ويكون تبديعها أمرا محكما ؟!
واشتهرت خيارات أصولية، توهمت قطاعات غير قليلة من القواعد السلفية أنها من المحكمات، منها مثلا : القول بتوقيف وسائل الدعوة. وبُني على ذلك طعن عريض في ممارسات دعوية متعددة، واتخذ ذلك وسيلة للنيل من شرعية أصحابها. مع ما تحمله القاعدة المُدّعاة من إشكال في بنائها، حين تجمع بين كلمتي (وسائل) و(توقيفية) !!.. ومع عدم إمكان طرد القاعدة المذكورة، فوسائل الجهاد ليست توقيفية، ووسائل التعليم ليست توقيفية .. وهكذا.
مرحلة التشكيك باستغلال التوسيع وضعف الإتقان العلمي :
وهذه مرحلة تالية لما ذكرناه، بدأ ظهور نجمها مع د.علي جمعة والذي استخدم علم أصول الفقه للترويج للأشعرية والتصوف جميعا. وقد نشأت معه وحوله مدرسة تتبنى خياراته المضادة للسلفية، وتعتمد على مدخل أساسي : وهو هدم الثقة في (المحكمات السلفية) بإظهار أقوال قديمة تخالف ما توهمه البعض (محل اتفاق) بين العلماء، والاحتجاج بقوة أصولية لإظهار ضعف مأخذ قول (قد يكون ضعيفا فعلا) لكنه مما ألصق بالمحكمات. والهدف : إسقاط (المحكمات الحقيقية) بالتشكيك، لأن أكثر المخاطبين لم يكونوا يفرقون بينها وبين الاجتهادات أو حتى الخيارات المرجوحة التي ألحقت بها وعوملت معاملتها.
وهذه المدرسة العلمية الهادمة لكثير من المحكمات الحقيقية، موجودة اليوم في أكثر من دولة عربية، ولها منظّرون معروفون (غير د.علي جمعة) ومنهم من يُظهر تجديد السلفية لا الخصومة معها. كما أنها قد أثّرت على بعض الشباب الذي كان سلفيا يوما ما، فضلا عن غيرهم ممن ملأتهم بالشبهات تجاه التيار السلفي لتحصينهم من دعوته، ربما قبل أن تصل إليهم تلك الدعوة (ونتجاوز عن ذكر الأسماء الآن).
مرحلة الثورات وإظهار التناقضات :
ثم جاءت الثورات العربية، وفتحت أبوابا من الممارسة كانت مغلقة، وفتحت كذلك عيونا من الشباب كانت مغمضة، فاتسع الخرق على الراقع.
إذ مارس أكثر التيار السلفي العمل السياسي النيابي تحت مظلة العلمانية، دون أن يقدم تمهيدا علميا لأنصاره. ونزلوا في مظاهرات، بعد أن كان ذلك من الممنوعات كسابقه. ورفض بعض الرموز المحسوبين على التيار الثورة، بينما شاركوا في الانقلاب العسكري عليها .. إلى آخر سيل المواقف والتصريحات المُربِكة لكثير من القواعد السلفية، والمُظهِرة أنه ليس كل ما قيل إنه مُحكم داخل التيار السلفي فهو كذلك.
خطورة الذوبان كرد فعل سلبي :
فتتلاقى الشبهات العلمية التي يزداد طرحها يوما بعد يوم، على قضايا مُحكَمة في أصول الاعتقاد أو البدعة ونحوهما، تتلاقى مع ضعف علمي في جانب، ومع تناقض عملي في جانب آخر، لتكون محكماتنا كلها معروضة للنقاش دون قداسة، ومعروضة للتشكيك دون يقين.
وإذا كان توسيع دائرة المحكمات الشرعية بغير انضباط، هو من سمات المرحلة السابقة (ما قبل الثورات). فإن رد الفعل الذي يهدرها كلها، بلا تمييز بين ما كان منها محكما وما ليس كذلك، ويذوب مع الخلافات بلا ضابط، هو من السمات السلبية لمرحلتنا هذه (منذ الثورات) وما قد يليها، إن لم نحسن معالجة المشكلة.
الرشد والاتزان في هذه القضية تأصيلا وتطبيقا :
إن التعامل مع مثل هذه المشكلات، لا يكون بالتجاهل لا لأصولها الموجودة داخل التيار، ولا لمقولات خصوم التيار الذين ينتقدونه. فخبرة التاريخ تقول إن هذا الأسلوب لا يصمد كثيرا، خاصة في أجواء الانفتاح، ومع تكاثر دواعي التأثير على الجموع المسلمة.
لقد بدأت محاولات جادة للتصحيح الداخلي (أشهرها ما قام به د.صلاح الصاوي في كتاب “الثوابت والمتغيرات”) لكنها كانت حوارا مع الداخل الإسلامي بالأساس.
ونحن نحتاج إلى ترسيخ أصول الاستدلال، وإظهارها في تأكيد المحكمات الحقيقية. كما نحتاج أن نمارس التحرير لتفاصيل القضايا، فنميّز بين أنواعها وأحكامها، للخروج من التعميمات المخلّة مهما كانت شهرتها في التيار.
نحن نحتاج إلى تجديد حقيقي للسلفية، يحيي الأصول ويحميها، ويضبط الفروع ومسالكها. تجديد يعيد الاتزان إلى الأفكار والمشاعر جميعا. تجديد يحسن التفريق بين الموافق والمخالف، وبين الوليّ والعدوّ، ويُفاوِت بين الرتب، ويعلّق الأحكام بمناطاتها الصحيحة.
فإن الرشد والاتزان فقط، هو الكفيل بمواجهة هذه الإشكالية، إذ بالحق والعدل قامت السماوات والأرض. أما المبالغة في الهروب والإنكار، أو المبالغة في العدوان والاتهام (وكلاهما سلوك معتاد في مثل هذه المواقف) فلن تزداد المشكلة بهما إلا اشتعالا، كما سبق ذكره.
وأخيرا فإننا نوقن
التعليقات