الحمد لله خالق الثقلين الذي إليه يرجعون ، وصلى الله وسلم على محمد إمام المرسلين وخير العالمين ، وبعد ….
فإن الله –تعالى– الذي قال “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)” {21- الأحزاب} لقد جعل الله هذه الآية العظيمة الجامعة ، فارقة بين أحوال المذكورين قبلها من المنافقين ومرضى القلوب ، وبين أحوال المذكورين بعدها من المؤمنين الصادقين .
و”هذه الآية أصل كبير في التأسِّي برسول الله rفي أقواله وأفعاله وأحواله ” {6/235 تفسير ابن كثير } لهذا “استدل الأصوليون في هذه الآية ، على الإحتجاج بأفعال الرسول وأن الأصل أن أمته أسوته في الأحكام ، إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به ” {925- تفسير السعدي } وكان هذا إعمالا منهم لقاعدة أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” {78- مباحث في علوم القرآن ، مناع القطان } .
فلأن أكثر المستدلون من الخطباء و الوعاظ من ذكر هذه الآية الكريمة ، حثا على صور من التأسي في أصول العبادات كالصلاة ، أو الهدي الظاهر كاللحية ، أو الأخلاق كالحياء ، أو ما شابه ذلك . ولإن تابعهم جمهور عريض من المسلمين على هذا الفهم الواسع فلقد أحسنوا جميعا وما أساءوا . ولكن ….
ولكن كيف يُغفل عن واحد من أعظم صور التأسي المقصودة من الآية الشريفة ؟! بل ما نزلت الآية فيه !! إذ “سبب النزول غير خارج عن حكم الآية ” {86- مناهل العرفان ، للزرقاني} بل “الإجماع على أن حكم السبب باق قطعا” {السابق} . فهو أول المعاني المرادة من الآية و التي يجب أن تصل إلى المخاطبين المكلفين بهذا الحكم الشرعي الباقي ….
لقد كانت غزوة الأحزاب ، بما حصل فيها من اجتماع الكفار على المسلمين ، ومن شدة الإبتلاء الذي يزلزل القلوب”اذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) ” {11:10 – الأحزاب} و”ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة ، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق ، ورسول الله بين أظهرهم ،….. ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالا شديدا ، فحينئذ ظهر النفاق ، وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في نفوسهم “وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا (12)” {12- الأحزاب} أما المنافق فنجم نفاقه ، والذي في قلبه شبهة أو حسيكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال “وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ” أي : هاهنا ، يعنون : عند النبي في مقام المرابطة”فَارْجِعُوا” أي : إلى بيوتكم ومنازلكم “وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ” …. أي ليس دونها ما يحجبها من العدو ، فهم يخشون عليها منهم ، قال الله – U- : “وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ” أي : ليس كما يزعمون “إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)” {13- الأحزاب} أي هربا من الزحف” {6/232 : 233 – تفسير ابن كثير }
لقد كانت غزوة الأحزاب بكل هذا الذي حصل فيها سببا لنزول هذه الآية الكريمة في هذا السياق الخطير …..
لهذا لم يكن عجبا ما نطق به أئمة التفسير ، فهذا الإمام ابن كثير –رحمه الله- يتم كلامه السابق بقوله : “ولهذا أمر –تعالى- الناس بالتأسي بالنبي يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ولهذا قال –تعالى- للذين تقلقلوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب : “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” أي : هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله ؟! ولهذا قال – تعالى- : “لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” {6/235- تفسيرابن كثير} .
وهذا العلامة السعدي – رحمه الله- يقول تحت الآية : ]لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ “حيث حضر الهيجاء بنفسه الكريمة ، وباشر موقف الحرب ، و هو الشريف الكامل ، و البطل الباسل ، فكيف تشحون بأنفسكم عن أمر جاد رسول الله r فيه بنفسه ؟!! فتأسوا به في هذا الأمر وغيره …. وهذه الأسوة الحسنة ، إنما يسلكها ويوفق لها ، من كان يرجو الله واليوم الآخر فإن ما معه من الإيمان ، وخوف الله ، ورجاء ثوابه ، وخوف عقابه ، يحثه على التأسي برسول الله ” {925- تفسيرالسعدي} .
وهذا الشيخ حسنين مخلوف -رحمه الله- يقول تحتها : “أي خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى و يقتدى بها ، وهي الثقة بالله والثبات في الشدائد ، والصبر على المكاره والقتال بنفسه” {529- تفسيرالشيخ حسنين مخلوف} .
ولما كان “التحقيق : أن صورة سبب النزول قطيعة الدخول كما هو مقرر في الأصول ” {4/284- تفسيرالشنقيطي} . كان في هذه الآية ” عتاب للمتخلفين عن القتال ، أي : كان لكم قدوة في النبي r حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق . والأسوة : القدوة …. والأسوة : ما يتأسى به ، أي : يتعزى به ، فيُقتدى به في جميع أفعاله ، ويُتعزى به في جميع أحواله ، فلقد شُجّ وجهه ، وكُسرت رباعيته ، وقُتِلَ عمه حمزة ، وجاع بطنه ، فلم يُلفَ إلا صابرا محتسبا ، وشاكرا راضيا .” {14/153- تفسير القرطبي} .
فإنه “بعد توبيخ المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، أقبل الكلام على خطاب المؤمنين في عموم جماعتهم ، ثناءاً على ثباتهم وتأسيهم بالرسول على تفاوت درجاتهم في ذلك الائتساء ….. فالذين ائتسوا بالرسول يومئذ ثَبُتَ لهم أنهم ممن يرجون الله واليوم الآخر وذكروا الله كثيرا . وفيه تعريض بفريق من الذين صدهم عن الائتساء به ممن كانوا منافقين أو في قلوبهم مرض من الشك في الدين .”{21/302: 303-تفسير الطاهر بن عاشور} .
وأخيرا
ومع كل ما يحيط بالمسلمين اليوم ، من تحزب الأحزاب ، وابتلاء قلوب المؤمنين بأنواع الزلازل ، وتراجع المنافقين ومرضى القلوب عن نصرة النبي ودينه العظيم ، وأمته المستضعفة بل وتخذيلهم عن ذلك . مع كل ذلك ، يبقى السؤال المهم :
التعليقات