شرعية العمل الجماعي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد ..

1- الإنسان لا يعيش وحده، ولا يستقل واحد مهما كان بمصالح دينه أو دنياه، لهذا قامت العلاقات المتعددة بين الناس بما يحقق هذه المصالح، وهذا المعنى الفطري امتد من الأسرة إلى الدولة، فالاجتماع حاجة إنسانية ملازمة للنقص البشري، ووسيلة لا بد منها لتحقيق ما يعجز عنه الفرد أو يشق عليه.

2- لهذا صار الحكم الشرعي على أي تجمع إنساني محكوم بأمرين : أولهما : الهدف المقصود من الاجتماع، إذ للوسائل أحكام المقاصد. وثانيهما : مدى انضباط التجمع نفسه بأحكام الشريعة، لأن الشرع ضبط الوسائل، وإن لم يجعلها توقيفية فيما يعقل معناه.

3- ولما كانت الفوضى هي البديل عن النظام في أي علاقة إنسانية، من حيث اتخاذ القرار، أو تنفيذه، أو تنسيق صور التعاون، أو حل الخلافات التي يستحيل عدمها، كان تنظيم علاقة المجتمعين مطلوبا شرعيا.

4- لذا قال – صلى الله عليه وسلم – : ” إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم ” [صحيح، رواه أحمد وأبوداود والحاكم] لأن الشرع أتى لمصلحة العباد في العاجل والآجل.

5- وبقياس الأولى (الذي به حرم كل إيذاء للوالدين بالنهي عن التأفف) وجب ذلك في العدد الأكثر والتعاون الأطول. لذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – : ” فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولّى أحدهم، كان هذا تنبيها على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ” [مجموع الفتاوى 28/65]  وكذا قال الشوكاني [نيل الأوطار 8/265] .

6- فكيف إذا كان الاجتماع لواجبات ثقيلة، تنوء بحملها العصبة أولو القوة، من تحكيم للشريعة وإقامة للخلافة، واستعادة لهوية الأمة وردها لدينها، وجهاد للأعداء وتحرير للمقدسات والثغور، ونصرة للمستضعفين المظلومين في الأرض ؟!.. وهل يقدر المنفرد أو المنفردون المبعثرون على تحقيق ذلك ؟!..

7- جاء في (أحكام القرآن) للجصاص – رحمه الله – : ” حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ سَمِعْت ابْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ لَمَّا بَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ قَتْلُ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغَ بَكَى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَمُوتُ فَخَلَوْت بِهِ فَقَالَ كَانَ وَاَللَّهِ رَجُلًا عَاقِلًا وَلَقَدْ كُنْت أَخَافُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرَ قُلْت وَكَيْفَ كَانَ سَبَبُهُ قَالَ كَانَ يَقْدُمُ وَيَسْأَلُنِي وَكَانَ شَدِيدَ الْبَذْلِ لِنَفْسِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَكَانَ شَدِيدَ الورع وكنت رُبَّمَا قَدَّمْت إلَيْهِ الشَّيْءَ فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَذُوقُهُ وَرُبَّمَا رَضِيَهُ فَأَكْلَهُ فَسَأَلَنِي عَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إلَى أَنْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لِي مُدَّ يَدَك حَتَّى أُبَايِعَك فَأَظْلَمَتْ الدُّنْيَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَقُلْت وَلِمَ قَالَ دَعَانِي إلَى حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ فَامْتَنَعْت عَلَيْهِ وَقُلْت لَهُ إنْ قَامَ بِهِ رَجُلٌ وَحْدَهُ قُتِلَ وَلَمْ يَصْلُحْ لِلنَّاسِ أَمْرٌ وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا صَالِحِينَ وَرَجُلًا يَرْأَسُ عَلَيْهِمْ مَأْمُونًا عَلَى دَيْنِ اللَّهِ لَا يَحُولُ قَالَ وَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَى تَقَاضِي الْغَرِيمِ الْمُلِحِّ كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيَّ تَقَاضَانِي فَأَقُولُ لَهُ هَذَا أَمْرٌ لَا يَصْلُحُ بِوَاحِدٍ مَا أَطَاقَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى عَقَدَتْ عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لَيْسَتْ  كَسَائِرِ الْفَرَائِضِ لِأَنَّ سَائِرَ الْفَرَائِضِ يَقُومُ بِهَا الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَهَذَا مَتَى أُمِرَ بِهِ الرَّجُلُ وَحْدَهُ أَشَاطَ بِدَمِهِ وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ فَأَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُعِينَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ لَمْ يَجْتَرِئْ غَيْرُهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ وَلَكِنَّهُ يَنْتَظِرُ فَقَدْ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَرْوَ حَيْثُ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ فَكَلَّمَهُ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ فَأَخْذَهُ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فُقَهَاءُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَعِبَادُهُمْ حَتَّى أَطْلَقُوهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَزَجْرَهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ ثُمَّ قَالَ مَا أَجِدُ شَيْئًا أَقُومُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِك وَلَأُجَاهِدَنَّك بِلِسَانِي لَيْسَ لِي قُوَّةٌ بِيَدِي وَلَكِنْ يَرَانِي اللَّهُ وَأَنَا أُبْغِضُك فِيهِ فَقَتْلَهُ ” [2/319-320] ( فالواجب ما أشار به أبو حنيفة، وما فعله الصائغ مستحب ) .

8- فإذا كانت نصرة الدين واجب لا تمكن إقامته إلا بالاجتماع، صار هذا الاجتماع واجبا، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. بل وجب من الانضباط في هذا الاجتماع ما يحقق به مقصوده وعلة وجوبه. قال شيخ الإسلام : ” وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ قَدْ يُوجِبُهُ ابْتِدَاءً؛ كَإِيجَابِهِ الْإِيمَانَ وَالتَّوْحِيدَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. وَقَدْ يُوجِبُهُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْتَزَمَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُوجِبْهُ؛ كَالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ لِلْمُسْتَحَبَّاتِ. وَبِمَا الْتَزَمَهُ فِي الْعُقُودِ الْمُبَاحَةِ: كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا. وَقَدْ يُوجِبُهُ لِلْأَمْرَيْنِ كَمُبَايَعَةِ الرَّسُولِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ مُبَايَعَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَعَاقُدِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ.” [مجموع الفتاوى 29/345-346] .

9- يوضحه أن ” كل كلام يتضمن التزام فعل طاعة فهو نذر ” [نظرية العقد لابن تيمية 90] والنذر المطلق مشروع بلا خلاف، وواجب الوفاء به كذلك بلا خلاف، فالتعاقد المذكور على نصرة الدين من هذا الباب.

10- ثم إن الفرقان ما بين الصادق والكاذب، هو بذل الأسباب الممكنة للوصول إلى الهدف الذي يذكرانه (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة – 46] فحكم الله – تعالى – على من ترك الإعداد بأنه لا إرادة صادقة له، إذ لم يقدم السبب المناسب للنتيجة المطلوبة.

11- ولاستقرار هذا المعنى عند العقلاء، استقر العمل به، عند من يعلن قبوله وعند من يعلن رفضه على السواء، في مصالح الدين أو الدنيا، فلكل مؤسسة عامة أو خاصة هيكل إداري ونظام، من غير نكير من أي من علماء الأمة. ولا عبرة بتغيير الألفاظ، فلو سمينا (المسئول) مثلا (شيخا) وسمينا (طاعته) مثلا (أدبا) وسمينا (الجماعة) مثلا (جمعية) .. فأي حقيقة تغيرت ؟! وقد قرر أهل العلم أنه في الحكم على الأشياء، فإن العبرة بالقصود والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.

12- أما الأسماء التي يراد بها التمييز فلا إشكال فيها، بل من ترك تسمية نفسه سماه الناس طلبا لتمييزه عن غيره، دون أن يترتب على مجرد الاسم ولاء وبراء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ” بَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَدْ يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا مِثْلُ انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَوْ إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ أَوْ مِثْلُ الِانْتِسَابِ إلَى الْقَبَائِلِ: كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ وَإِلَى الْأَمْصَارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ. فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ.” [مجموع الفتاوى 3/416] .

13- والجماعات الإسلامية ليست فرقا، لأنها لم تفارق اعتقاد أهل السنة والجماعة، إنما هي اجتهادات في نصرة الدين في ظل نوازل عصرنا، كالمذاهب الفقهية التي مثلت اجتهادات في التعامل مع أدلة الشريعة ( وسنتدارس لاحقا حقيقة الفِرَق بإذن الله ) . وقد تعددت أحزاب المجاهدين ضد الشيوعيين في أفغانستان، فلم يمنع تعددهم علماء الأمة من إضفاء الشرعية عليهم، وعلى جهادهم، بل طالبوا الأمة بنصرتهم، ولم يختلفوا في ذلك.

14- لذلك فقوله – صلى الله عليه وسلم – : ” فاعتزل تلك الفرق كلها ” [الصحيحين عن حذيفة] إنما يرجع إلى “الفرق” لا “الجماعات” وقد أشار إليها بـ”تلك” التي قال عنها “دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها” قال النووي : ” قَالَ الْعُلَمَاءُ هَؤُلَاءِ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَدْعُو إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالٍ آخَرَ كَالْخَوَارِجِ والقزامطة وَأَصْحَابِ الْمِحْنَةِ ” [شرحه على مسلم 12/237] وهذا هو المعقول، فإنها دعوة لمفارقة الشر، لا دعوة لمفارقة الخير.

15- وكل من يطاع لله، فإنه يطاع في حدود طاعة الله، لقوله – صلى الله عليه وسلم – : ” إنما الطاعة في المعروف ” [مسلم عن علي بن أبي طالب] و: ” على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة ” [الصحيحين عن ابن عمر] .

16- فلو أطاع أحد الناس جماعته في غير طاعة، أو تعصب لها بالباطل فوالى عليها وعادى، ففعله منكر يجب أن يتوب إلى الله منه، ولا يقر عليه. لكن ذلك لا يعود على أصل الاجتماع بالإبطال ونقض الشرعية، فقد أطيع عدد من أمراء المسلمين في المعاصي فلم يقل أحد بعدم جواز تولية الأمراء لذلك، وتعصب متفقهون لمذاهبهم حتى ظلم بعضهم بعضا فلم يمنع أحد التفقه على المذاهب لذلك. بل يؤمر الناس بالطاعة، ويحذرون من العصيان.

17- فالجماعة ليست هي الأمة، بل طليعتها الرائدة. وليست بديلا عن الأمة، بل هي فئتها المصلحة. هي محضن التربية، ومدرسة العلم، وموجه الفكر، ووسيلة العمل لتجديد الدين واستعادة مكانة الأمة.

بقيت شبهات حول موضوعنا، لم نذكرها مع الرد عليها إيثارا للاختصار، واكتفاء بما أوردنا من تأسيس. ولمن أراد المزيد يمكنه مراجعة كتاب ( مدى شرعية الانتماء ) لمؤلفه أ.د. صلاح الصاوي .

والحمد لله أولا وآخرا


التعليقات