الإسلام رسالة تغييرية

الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، و صلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد المبعوث بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده (1)، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم يحمل رسالتهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

منشأ المشكلة

إن أمتنا عندما تعرضت للتيه زمنا طويلا، ثم هي تحاول الآن أن تستعيد وجودها الرسالي، الذي ترث فيه نبيها – صلى الله عليه وسلم – كأمة رائدة للحياة الإنسانية، فتنحاز الجماهير المسلمة لمن يرفعون راية الإسلام، متجاوزة بذلك الانحياز عقودا من التضليل والاستبداد العلماني .. عند هذه اللحظات التاريخية تصفى الصفوف مع تصفية النفوس، ويتمايز المتقدمون بالإسلام .. إذ ليس الكل يحمل رسالة التغيير بالإسلام .. بل إن هناك من ألفوا الوجود مع الباطل وتحته، حتى صارت أعلى أمنياتهم .. مشاركته .. لا تغييره.

معالم الرسالة .. منطلق الحل

في مثل هذه اللحظات الفارقة، تتأكد أهمية إبراز معالم رسالة النبي – صلى الله عليه وسلم – لأنه كان الوجود المثالي للرسالة وللدين، وكل وجود صحيح بعد ذلك يكتسب صحته بمقدار اقترابه من هذا النموذج المثالي، ويفقد من الصحة بمقدار ما يبتعد عن النموذج الذي طبقه النبي – صلى الله عليه وسلم -.

فإن ربنا – سبحانه وتعالى – لم ينزل لنا كتاباً وفقط، لأنه لو كان كتاباً وفقط لأمكن للأفهام أن تتفاوت في تفسيره بما قد يخرجه عن مقصوده، لكنه أرسل لنا رسولا يحمل الكتاب، ليكون الكتاب هو الوحي المحفوظ لهذا الدين، وليكون الرسول – صلى الله عليه و سلم – هو التطبيق العملي الذي يفسر ويضبط المعاني التي جاءت في الكتاب. ومن ههنا كانت السنة هي الوحي الثاني، واستدل العلماء على حفظ السنة بآية حفظ الكتاب: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) فقالوا: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) تعني حفظ الألفاظ و حفظ المعاني، فحفظ الألفاظ ببقاء الكتاب، وحفظ المعاني بحفظ السنة. باعتبار أن كثيرا من البيان إنما حُفِظ بالسنة، فكان من تمام حفظ الكتاب حفظ السنة، باعتبارها جزءا من الوعد الرباني بحفظ الكتاب .. وهذا هو المنطلق الصحيح لفهم الدين.

حيثيات البعثة .. مفتاح الفهم

ولنبدأ القصة من البداية، ففي صحيح مُسلم من حديث عِياض بن حمار – رضي الله عنه – في حديث طويل للنبي – صلى الله عليه و سلم – ذكر فيه ما كان قبل بعثته،  وذكر فيه حيثيات هذه البعثة .. قال النبي – صلى الله عليه و سلم -: “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم و عجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب” (3) وهذا قبل البعثة .. نظر الله إلى أهل الأرض – هو لا يخفى عليه شيء من حالهم – فمقتهم، لأنهم لم يُقيموا الإيمان و التوحيد … لم يُقيموا العدل … لم يقيموا الرحمة … لم يقيموا الإحسان … لم يقيموا الطهارة التي يحبها الله – تبارك و تعالى – في عباده، ولذلك استحقوا أن مقتهم عربهم وعجمهم.

ثم قال – صلى الله عليه و سلم -: “إلا بقايا من أهل الكتاب“.. والتساؤل هنا: لماذا لم يمقت الله – عز وجل – بقايا أهل الكتاب؟.. لا بد أن أسباب المقت لم توجد فيهم، فهم قد ظلوا على أصل التوحيد والإيمان، لم يُبدلوه، فحافظوا على بقية دينهم ولم ينحرفوا عنه، ولذلك لم يمقتهم الله – تبارك وتعالى – عندما مقت بقية أهل الأرض.

أين ذهبت البقايا المؤمنة؟

لكن الشيء العجيب حقا .. هو أن الله – عز وجل – مع أنه لم يمقتهم .. إلا أنه قد استبدل بهم غيرهم .. فبعث النبي – صلى الله عليه وسلم – يجدد ملة إبراهيم – عليه السلام – ويرفع شعار التوحيد، ويقيم الدين، ويخرج أمة الإسلام .. بل صارت نجاة من بقي من البقايا .. أن يكون تابعاً للنبي – صلى الله عليه و سلم – الذي قال: “والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ، ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار” (4)..

 والأمر عجيب .. ألم يكن منهم مؤمنون؟.. ألم يكن وجودهم سابقاً؟.. لماذا لم يكونوا هم المتبوعين؟.. ولماذا كانت هناك حاجة إلى رسالة جديدة، تصير نجاتهم أن يكونوا لها تابعين.. فيكونون بذلك امتداداً لغيرهم ولا يكون غيرهم امتداداً لهم من هذه الجهة؟!..

سبب الاستبدال

السبب هو أنهم لم يكونوا قادرين على التغيير.. ولم يحملوا رسالة تغييرية .. بل كانوا كما قال الحبيب – صلى الله عليه و سلم -: “بقايا” .. وهذه اللفظة تشعرك أن هناك شيئا ينتهي، وهذه آخر البقايا .. قبل النهاية ..

يشهد لذلك ما جاء في قصة إسلام سلمان الفارسي – رضي الله عنه – فإنه لما لقي واحدا من هؤلاء البقايا، وكاد أن يموت، قال: “إلى من توصي بي؟” فدله على ثانِ، فلما كاد أن يموت، قال: ” إلى من توصي بي ؟” فدله على ثالث، فلما كاد أن يموت، قال: ” إلى من توصي بي ؟” فدله على رابع، فلما كاد أن يموت، قال: ” إلى من توصي بي؟” فقال له:  “والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس” وأخبره بقرب بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وحثه على طلب أرضه التي يهاجر إليها ليكون من أوليائه و أنصاره (5) .. وهذا وصف البقايا … فالبقايا كان عندهم بقية من إيمان، لكنهم لم يكونوا يملكون قوة التغيير.

البعثة … برسالة تغييرية

ولا أعني بقوة التغيير هنا القوة المادية، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما بُعث لم تكن عنده القوة المادية … لكنه كان يملك القوة النفسية و روح التغيير … وهذه الروح هي التي بعث بها النبي – صلى الله عليه وسلم – لذلك نجد في الحديث نفسه قول الله للنبي – صلى الله عليه وسلم -: “إنما بعثتك لأبتليك و أبتلي بك” (6) ..  فأنت سوف تكون في اختبار حينما تريد تغيير الناس، والناس يرفضون التغيير. وهم أيضاً يمتحنون، بما تحدثه في حياتهم من تغيير.

بل ورد في الحديث ذكر لأعنف وأعلى صور التغيير حين قال – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله أمرني أن أحرق قريشاً” (7) .. فهذه الألفاظ غاية في القوة .. وهي تفيد تغييرا كاملا لواقع فاسد، وتنشئ بدلا عنه واقعاً جديداً صالحاً ..

من يؤدي المهمة الصعبة؟

ولما لم تكن المهمة سهلة، نجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – يحكي استعظامه لهذه المهمة: “قلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة” (8) .. أي: كيف أغير قريشا هذه كلها وحدي؟! كيف أقدر على هدم كل هذا الباطل، وأبني مكانه صرح الحق من جديد؟!.. فأمره الله – تبارك وتعالى – أن يكون له على التغيير أعوان، فالتغيير ليس مهمة النبي – صلى الله عليه وسلم – وحده، بل هو مهمته .. ومهمة أتباعه، ولذلك قال الله له في الحديث: “قاتل بمن أطاعك من عصاك” (9) .. فهذا التغيير الشامل لن تفعله وحدك، إنما المؤمنون الذين يطيعونك سيكونون معك، حرباً في هذا التغيير على من عصاك. و وعده الله – عز وجل – بالمدد فقال: “اغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله” (10).

المقارنة الكاشفة للتميز بالتغيير

 إن من يريد فهم هذا المعنى الذي نقرره، عليه أن يتأمل الحديث الشريف، حديث نزول الوحي على النبي – صلى الله عليه وسلم – أول مرة .. هل عرف الوحي أم أنكره؟.. هل اطمأن إليه أم خاف منه؟.. حين ذهبت به خديجة – رضي الله عنها – إلى ورقة بن نوفل، ألم يكن عند ورقة بن نوفل في هذه اللحظة من العلم ما لم يكن عند النبي – صلى الله عليه وسلم – ولذلك قال له: “هذا الناموس الذي نزل الله على موسى” (11) ؟..

ففي هذه اللحظة عرف ورقة الأمر، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لم يعرف .. و ورقة اطمأن واستبشر، بينما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – خائفاً .. بل و عرف ورقة بقية الطريق “قال: يا ليتني فيها جذعا ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أو مخرجي هم ” ، قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا” (12) ..

وهنا سؤال مهم: ألم يكن عند ورقة بن نوفل مثل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان من البقايا المؤمنة؟!.. فلماذا لم يعاد أهل مكة ورقة بن نوفل، وقد عاش في مكة حينا من الزمن، وهم يعلمون أنه مخالف لدينهم، مع ما عنده من العلم والإيمان، لدرجة أنه ثبت النبي – صلى الله عليه وسلم – و بشره؟! …

السبب أنه لم يكن يمثل حركة تغييرية في مكة، إنما كان إنساناً له خياراته التي يعيش بها. و ورقة قد عرف أنه بقية من البقايا، وأن الدور التغييري الكبير الذي سيفعله النبي – صلى الله عليه وسلم – هو مثل الدور الكبير الذي قام به موسى – عليه السلام – مع بني إسرائيل بالبناء، ومع فرعون الذي مثل رمز الطاغوتية المضادة بالهدم، ولهذا شبهه به.

بل إن مما يجدر ذكره، أن هذا التشبيه ليس موجوداً عندنا في الوحي فحسب، بل هو موجود أيضا في بشارات أهل الكتاب، فنجد فيها تشبيه النبي – صلى الله عليه وسلم – بموسى و أنه يخرج لبني إسرائيل من بني عمومتهم، من يصنع كما صنع موسى – عليه السلام -. ولا تصدق هذه النبوءة إلا على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – الذي خرج من بني عمومتهم بني إسماعيل، وأحدث تغييراً هائلاً في حياة الجماعة البشرية، كالذي أحدثه موسى – عليه السلام -.

أما ورقة بن نوفل فإنه لم يُواجه العداوة مع إيمانه وعلمه بالحق، لأنه لم يكن تغييرياً، لم يعمل على إحراق باطل قريش. لكنه عرف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سيقود حركة تغييرية في المجتمع المكي وفي هذا الوجود الإنساني، ولذلك سيعادى وسيخرج.

الوجود الصحيح

ومثل ورقة الوجود الصحيح للبقايا حين قال: “وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا” (13) .. فأكون تابعاً لك، ناصراً لأمرك، فهذا هو الدور الذي بقي لهم ليؤدوه في الحياة. أما الدور الذي تميز به النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان جوهراً لرسالته، فهو تغيير الحياة الإنسانية، ولأجل هذا كانت الدعوة، وكان الجهاد، وكان التغيير في كل مناحي الحياة. بل قد كانت حياته – صلى الله عليه وسلم – كلها جهاداً ودفعاً وتغييراً، واستمر هذا الأداء الرسالي إلى أن قبض النبي – صلى الله عليه وسلم -.

 والوجود الصحيح للأمة هو الذي يكون امتداداً لوجود النبي – صلى الله عليه وسلم -. لذلك يحفظ الوجود الصحيح للأمة بالطائفة الظاهرة على الحق المنصورة، حتى إن الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم لما ذكر حديث الطائفة، قال: ” فيه دليل لكون الاجماع حجة وهو أصح ما استدل به له من الحديث ” (14) .. لأنه إذا حصل الإجماع، فمن المؤكد أن الطائفة المنصورة مع من أجمع، وهي ظاهرة على الحق، فيكون هذا الذي أجمع عليه هو الحق. فهم الامتداد العظيم للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولرسالته في الأمة.

طائفة .. تحمل الرسالة التغييرية

وإذا رأينا أحاديث الطائفة المنصورة، نجد فيها معاني الرسالة التغييرية، فمن ذلك:

أولا : ربط دور الطائفة بالفقه في الدين

ففي إحدى الروايات عن النبي – صلى الله عليه و سلم – في أحاديث الطائفة: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة” (15)  .. فإذا تساءلنا عن سر الربط بين دور الطائفة وبين الفقه في الدين؟.. كان الجواب أن الفقه في الدين أخص من مجرد حمل الدين، أو معرفته، أو نقله، ففي فقهه مزيد خصوصية في فهمه، وهذا الفهم يشمل ابتداء فهم دوره التغييري بشكل سليم. ولذلك فرق النبي – صلى الله عليه وسلم – بين الناقل وبين الفاقه، فلما حث على البلاغ وهو مطلق النقل، قال: “فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه” (16) .. فالطائفة تمتاز بفقه الدين، فهي تفهم الدور الرسالي للأمة المسلمة المؤتمنة على هذا الدين في الأرض.

ثانيا : انعكاس ذلك الفهم على ممارستها التغييرية

فهي ظاهرة على الحق، معلنة له، تتحمل وتتكبد تكاليف إقامة الحق وحفظه، بل هي تقاتل على الحق، كما في روايات كثيرة من الأحاديث: “يقاتلون على الحق” (17) وفي لفظ آخر: “لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال” (18)  .. فهذه الطائفة تمثل العصمة للأمة.. لقربها من النموذج النبوي  في فهم الدين، وأداء دوره الرسالي، بإظهار الحق وتغيير الحياة على مقتضى هذا الحق، ويستمرون في ذلك إلى آخر الزمان.

أما عن خصوصية ذكر الدجال، فلأن فتنة الدجال كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” والله ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أعظم من الدجال” (19) وقال: “إن الله – تعالى – لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال، وإني آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة” (20) والنبي – صلى الله عليه وسلم – أخبر عن أثره على الناس فقال: “ليفرن الناس من الدجال في الجبال” (21) .. لكن الطائفة تجتمع لقتال الدجال، فهي لا تجتمع للفرار من الدجال، ولا للمحافظة على دينها وفقط، بل لقتاله، لأنها امتداد للدور الرسالي الذي قام به النبي – صلى الله عليه وسلم – أول مرة.

وبينما هم مجتمعون لقتال الدجال، وأقاموا الصلاة ليصلي بهم إمامهم، ينزل عليهم عيسى – عليه السلام – ويقودهم، ويقتل الله على يده الدجال (22). ولكن هل تأملتم على من نزل عيسى عليه السلام؟!.. إنه لم ينزل على هؤلاء الذين فروا يطلبون النجاة بإيمانهم، مع علو ما قاموا به من خير، لكنه نزل على  المجتمعين لقتال الدجال. وتأملوا هذا الفقه للدين .. إنهم يعلمون أن الدجال لن يُقتل حتى نزول عيسى – عليه السلام – فإنه لا يقتل الدجال إلا عيسى، فالمنتظر أنهم يجلسون وينتظرون نزول عيسى – عليه السلام – … لكنهم فقهوا أن من قعد .. لا ينزل عليه النصر .. إنما يتنزل النصر على من تجهز للقتال .. وسار في الطريق .. لا على من نأى في الجبال .. ولا على من جلس ينتظر الوعود، من غير أن يعد لها عدتها. إن هؤلاء هم الطائفة الظاهرة، وهم الامتداد الصحيح للنبي – صلى الله عليه وسلم -.

و لذلك لما ذكر العلماء خاصية هذه الأمة، والتي حازت بها الشرف في الآية: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (23) وقفوا هنا .. لم قدم الأمر و النهي عن الإيمان؟!.. مع أن الإيمان هو الأصل لكل خير، والإيمان هو الأعظم بالقياس إلى كل خير، فلماذا أخر ذكره ههنا؟!.. لأنه قد يوجد إنسان عنده أصل الإيمان، لكنه لا يتم له إيمانه الذي يجعله يحمل روح الإسلام التغييرية، فيقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا يخسر من الخيرية بقدر ما قصر في الأمر والنهي. كالبقايا .. كان عندهم بقية إيمان، لكنهم لم يكونوا آمرين بالمعروف ولا ناهين عن المنكر، فامتازت هذه الأمة و كانت خاصية رسالتها الكبرى، أنها أمة ترث دور نبيها – صلى الله عليه وسلم – في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للناس جميعاً.

 فهذه الرسالة، وهذه الروح، هي حقيقة بعثة النبي – صلى الله عليه وسلم – وهي حقيقة دين الإسلام، وهي حقيقة الوجود الإيماني الذي يمتد آخر الزمان. فإذا وصلنا إلى آخر الزمان، وتناقص الإيمان، وما بقيت هناك قوة على ذلك التغيير، إنما بقيت من هذه الأمة .. بقايا مؤمنة ضعيفة .. فيبعث الله – عز وجل – عليهم ريحاً طيبة تقبض كل نفس مؤمنة. فيبقى في الأرض شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة، لأن الدنيا حينها تكون قد فقدت دورها .. “إنما بعثتك لأبتليك و أبتلي بك” (24) .. فإذا غاب الوجود الإيماني الرسالي التغييري، وغاب المؤمنون، فلا بد أن تغيب الدنيا، وتنتهي الامتحانات، ويبدأ الجزاء الأخروي بعد ذلك.

ثالثا : حالهم مع الناس وحال الناس معهم

فقد وصف النبي – صلى الله عليه وسلم –  تلك الحال فقال: “لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون” (25) .. أما لماذا يخذلهم خاذل ويخالفهم مخالف؟.. فلأنهم يتحملون الأمر الثقيل: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (26) .. إنهم يحملون وراثة: “إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك” .. إنهم يحملون رسالة تغييرية للحياة، وليست رسالة توافقية مع الحياة، ولذلك يكثر مخالفوهم: “ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي” (27).

 أما من غير وانحرف، فقد خرج بانحرافه عن العداء، بقدر ما خرج عن الصراط المستقيم. بل إن كثيراً من هؤلاء المنحرفين كانوا يفاخرون بحسن علاقتهم بمن يجب عليهم شرعاً أن يعادوهم ..!! فخرجوا بذلك عن خط العداء .. عن خط الاستقامة .. عن خط التغيير .. عن خط النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي اختطه لهذه الأمة إلى آخر الزمان .. عن الخط الذي به يحفظ الدين، وبه تحفظ الأمة، وحين يغيب .. توشك شمس هذه الأمة أن تغيب .. بل توشك شمس الحياة الإنسانية كلها أن تغيب.

بين خاذل .. ومخالف

فلماذا إذن ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الخاذل قبل المخالف: “خذلهم أو خالفهم“..؟؟

لأن الخاذل يحدث من النكاية في القلب أشنع مما يحدث المخالف، فالمخالف يعاديك، يقول لك: أنت مخطئ. فهناك انفصال بينكما منذ البداية. لكن الخاذل يقول لك: ما أحسن هذا الكلام .. وما أجمل هذه الحياة .. لكن لك أنت .. وليس لي أنا .. هذا عمل عظيم .. لكن قم أنت به .. وادفع أنت ثمنه .. وحدك … أنا لن أسير معك في هذا الطريق .. أنا لن أتحمل شيئاً من تكاليف هذا التغيير .. أنا لا أريد أن أخاطر بشيء من مكتسباتي و معاشي الدنيوي .

إذاً ما أكثر الخاذلين، الذين كنت تنتظر أن يكونوا لك ناصرين، لأنهم في الأصل موافقون، وليسوا مخالفين، لكنهم إذا حان وقت النصرة .. خذلوا .. وتركوا .. وباعوا .. لتدفع الطائفة الظاهرة على الحق الثمن وحدها، وتستحق بذلك الشرف والمنزلة وحدها، بأن تكون ذلك الامتداد الكريم للنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الأمة، بل وفي الناس، بحملها راية الإسلام، وحقائق الدين، وروح التغيير للحياة الإنسانية، لتكون على مقتضى إرادة الله – سبحانه وتعالى – وشرعه الذي يحبه لخلقه أجمعين.

 إن حقيقة الرسالة التغييرية للإسلام، وحقيقة تفاوت الناس في فقهها والعمل بمقتضاها، حقيقة أولية سيظل الناس يفترقون ويختلفون بسببها، فيظل من الناس وراث للنبي – صلى الله عليه وسلم – أتباع للطائفة الظاهرة، أو أئمة فيها .. ويظل من الناس خاذلٌ .. وخاذلٌ .. وخاذل، ويظل من الناس مخالفٌ .. ومخالفٌ .. ومخالف.

خطورة غياب الرسالة التغييرية

وتزداد قيمة وعي هذا الدور الرسالي للنبي – صلى الله عليه وسلم – ولأمته من بعده، إذا استحضرنا خطورة غياب الدور الرسالي التغييري للإسلام، في ظل معركة قدرية مفروضة: ( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ) (28) .. معركة لا يترك فيها العدو بابا يمكن أن يدخل منه إلا ودخل: ( ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ) (29) .. معركة ترى فيها: ( شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) (30).

الدين .. بين الصد والتحريف

إن سبيل أعداء الدين مع الدين ليست دائماً سبيلاً واحدة، لكن لهم مسالك مختلفة، والله – تبارك وتعالى – ذكر لنا ذلك في القرآن، فقال عنهم أنهم: (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيل اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) (31) .. فالصد شيء، وابتغاؤها عوجاً شيءٌ آخر.

فهم ابتداءً يصدون عن سبيل الله، فلا يريدون لأحد أن يدخل سبيل الله، ولا يريدون لأحد أن يتمثل وراثة النبي – صلى الله عليه وسلم – إنهم لا يريدون من الناس أن يسيروا في هذا الطريق ابتداءً، حتى إنه في بداية التسعينات كانت هناك خطة لمقاومة التدين في مصر، وكانوا يسمونها خطة تجفيف المنابع، وهذه تسميتهم وهدفها واضح من اسمها، وهو ألا تنبت الأرض بعد ذلك حركة إسلامية أبداً. فيأبى الله ولا تجف المنابع بفضل الله، فالله يهدي من يشاء، وليس بيد أحد من البشر أن يمنع هذه الهداية الربانية، مصداقاً لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم بطاعته” (32) .. فهي خير أمة، يهدي الله فيها قلوبا، و يصلح فيها رجالا، ويحدث بهم تغييرا.

فإذا شعروا أنهم لا يقدرون على منع الطوفان، حاولوا أن يحرفوه عن مساره، ليصب في صالحهم، بعد أن كان في طريقه ليقتلعهم.فهم: (يبغونها عوجاً) (33) .. أي: يريدونها عوجاً. وأي شيء هذا الذي يطلبون أن يكون معوجاً .. إن الضمير يعود على سبيل الله، فإن كان لا بد أن يكون هناك سبيل لله، فليكن ذلك، ولكن لتكن تلك السبيل معوجة، لكي نقبلها بيننا.

من أشنع صور التحريف المعاصرة

ويبقى السؤال: كيف يبغونها عوجاً؟!.. إن من أشنع ما بغوه من العوج خلال العقدين السابقين .. هو نزع الروح التغييرية من التدين، ومن مفهوم الإسلام عند أهله، فالناس تنتمي للإسلام انتماءً مسالماً لأعدائه .. متعايشاً مع مختلف الظروف .. شخصياً بدرجة كبيرة .. يصلح الإنسان فيه في خاصة نفسه بعض الصلاح، لكنه أبداً لا يكون اهتداءً لنفسه و للناس .. إنه أبداً لا يقاتل على الدين .. إنه أبداً لا يكون تغييرياً في هذه الحياة .. فهو متعايش مع كل صور الباطل والظلم والفساد والانحراف الموجودة .. إنه يعيش بجوارها دون المدافعة الواجبة شرعا.

قد يسأل سائل: وهل كان الكل إلا متعايشاً بجوارها، لأنه لا يملك دفعها؟!..

والجواب في تفريق الشرع، حين فرق بين أن تكون ممتلئاً غيظاً على الباطل، ممتلئاً رغبة في إزالته، وأنت لا تقدر، وبين أن تكون مطمئن النفس، هادئ البال، وأنت تعيش بجواره، فهذا هو التعايش المذموم، وهذا هو العوج والتدين المشوه. فهو تدين يكون عوناً للباطل، ولو بالسكوت والتزيين، ولا يكون عوناً للمظلوم، ولا يكون نصرةً للحق، ولا يكون أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وتغييراً لحياة الناس، وراثةً للنبي – صلى الله عليه وسلم -.

الفارق أثبته النبي – صلى الله عليه وسلم – حين قال: “فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ” (34) وفي رواية أخرى: ” وذلك أضعف الإيمان ” (35) .. فهناك إذاً حد فارق بين من لم يتكلم لكنه رافض، فرفضه هذا جهاد و تغيير، وعلامة صدق قلبه الرافض أنه إذا استطاع أن يتكلم فسيتكلم، وإن استطاع أن يغير فسيغير، وأنه ليس مطمئناً، ولا راكناً إلى مكاسب الحياة في ظل هذا الوضع الباطل.

أما الذي لا ينكر بقلبه، فهذا لم يبق شيء من الإيمان ليعمله في ظل ما امتحن به، من هذا القدر الرباني، فالإيمان الذي كان مطالباً به هنا هو الإنكار والتغيير، فلما زال إنكار القلب، زال مقابله من الإيمان في نفس الإنسان، وعلامة ذلك أنه يتبدى ركونه للباطل، ولو في فلتات لسان .. يتبدى ولو في مواقف عارضة. فإن الناس يفرقون بين الساكت مع الغيظ، و بين الراكن والمتواطئ، و كل إنسانٍ يفرق بين هذه الحال و بين الحال الأخرى من نفسه.

إنه الطريق

وليس مقصودنا إقامة محكمة جماعية أو فردية للناس، إنما مقصودنا أن نعرض أنفسنا والمسلمين، وأن يخاف كلٌ منا على نفسه، وأن يتبصر: أين هو من وراثة النبي – صلى الله عليه وسلم -؟.. و أين هو من ذلكم الامتداد الكريم للطائفة الظاهرة على الحق المنصورة؟.. أين هو منهم ومن رسالتهم التغييرية للحياة ؟..

إنه الطريق الصعب في ظاهره، لكنه الطريق الذي وعد أهله بالنصر: ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) (36) .. الطريق الذي وعد أهله بالتثبيت: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) (37) .. الطريق الذي وعد أهله بالهداية ( وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلنَا ) (38)  .. الطريق الذي وعد أهله برضا الله – سبحانه وتعالى – والأمان من النفاق في الدنيا، والأمان عند الموت، والأمان في القبر، والأمان يوم الفزع الأكبر كما سماه الله – سبحانه وتعالى -.

نعم إننا ننتظر يوم الفزع الأكبر، ولكن في ذلك اليوم لكن سيأمن ناس طالما خافوا في الدنيا، وخُوِفوا في الدنيا، هؤلاء هم ( الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) (39) .. والموعد عند رب العالمين قريب.

المصادر

1- حسن : رواه أحمد [4964] عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – ، وحسنه الألباني في المشكاة [4347] .

2- [ الحجر – 9 ] .

3- مسلم [5218] عن عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – .

4- مسلم [244] عن أبي هريرة – رضي الله عنه – .

5- حسن : رواه أحمد [23788] عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ ، وحسنه الأنؤوط في تحقيقه .

6- مسلم [5218] وقد سبق .

7- السابق .

8- السابق .

9- السابق .

10- السابق .

11- متفق عليه ، البخاري [3] ومسلم [257] عن عائشة – رضي الله عنها – أم المؤمنين .

12- السابق .

13- السابق .

14- شرح النووي على مسلم [13/69] ط.دار المعرفة (بيروت) الخامسة 1419هـ ـ 1998م

15- مسلم [3641] عن معاوية – رضي الله عنه – .

16- صحيح : رواه أحمد [21066] عن زيد بن ثابت – رضي الله عنه – ، وصححه الألباني في المشكاة [229] .

17- مسلم ، وقد سبق قريبا .

18- صحيح : رواه أبو داود [2138] ، و أحمد [19484] عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود [2484] .

19- صحيح : رواه أحمد [16299] عن هشام بن عامر – رضي الله عنه – ، وصححه الأناؤوط في تحقيقه .

20- صحيح : المستدرك [8704] عن صدى بن عجلان – رضي الله عنه – ، وصححه الألباني في صحيح الجامع [7875] .

21- مسلم [5350] عن أم شريك – رضي الله عنها – .

22- مسلم [5339] عن النواس بن سمعان – رضي الله عنه – .

23- [ آل عمران – 110 ] .

24- مسلم ، وقد سبق .

25- مسلم [3640] عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – .

26- [ المزمل – 5 ] .

27- متفق عليه ، وقد سبق .

28- [ محمد – 4 ] .

29- [ الأعراف – 17 ] .

30- [ الأنعام – 112 ] .

31- [ الأعراف – 45 ] و[ هود – 19 ] .

32-

33- سبقت قريبا .

34- مسلم [96] عن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ .

35- مسلم [95] عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ .

36- [ الحج – 40 ] .

37- [ إبراهيم – 27 ] .

38- [ العنكبوت – 69 ] .

39- [ الأنعام – 82 ] .


التعليقات