مفهوم الحضارة من منظور اسلامي.

الحضارة مصطلح يتناوله الكثير من الكتاب و المفكرين, بل هي كلمة شائعة على ألسنة الناس ليعبروا به عن ما يرونه تقدم إنساني لكن الموضوع يكمن في أن مفهوم هذا المصطلح عند كثير من الناس بعيد كل البعد عن حقيقته, ولا يسلم من ذلك حتى من يطلق عليهم المفكريين الإسلاميين. و سبب ذلك أننا تأثرنا بالأطروحة الفكرية و الثقافية الغربية, التي غيرت الكثير من تكويننا العقلي و النفسي, بصفته القوة المهيمنة على العالم, و بطبيعة الحال أن المهيمن يفرض رؤيته على غيره من الأمم. لكن هذا لا يغير كون هذه الأطروحة الغربية غريبة على الحس الإسلامي. أن مفهوم الحضارة السائد الان مبني على نظرية الحضارات الجاهلية الشيطانية التي تتناقض مع مفهوم الحضارة الحقيقي.
هذه الحضارات الغير متحضرة تضخم قيمة المادة, و التفسير المادي الغليظ للحياة الإنسانية و لحركة الوجود.حيث تتلازم الحضارة الجاهلية مع التعاظم و الاستطالة في البنيان من غير أن يترتب على ذلك نفع حقيقي للإنسان, و انظر على سبيل المثال إلى الأعمدة الرومانية الضخمة التي لا تحمل فوقها شيئ.حيث أن فلسفة الحضارة الجاهلية مبنية على تجسيد كل شيئ و تحويله الى مادة غليظة متاحة لتناولها بالحواس دون اعتبار دلالة الشعور , حتى في مجال الغيبيات تجسد الحضارة الجاهلية القوى العظمى الكامنة وراء خلق الكون إما على شكل وثنيات قديما, أو نظرية الطبيعة الخالقة عند الجاهلية الحديثة.
أما في المفهوم الإسلامي فإن المغالاة في مسألة البنيان مذمومة و التبسط في المسكن و الملبس و المأكل مطلوب.
فالمتأمل في نصوص الشرع يجد الاهتمام بالبنيان و التعاظم و التطاول فيه لا يذكر إلا على سبيل الذم:
“واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين”.
“أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون.”
“يتطاولون في البنيان”.
“إن العبد ليؤجر في نفقته كلها إلا في البناء”.
كل نفقةٍ ينفقها العبد يؤجر فيها إلا البنيان”.
“ليس لي أن أدخل بيتاً مزوقاً”.
“إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن والطين”.
“نهى ان تستر الجدر”.

في الحضارة الجاهلية القيمة العليا للإنتاج المادي و تهدر في سبيلها القيم الإنسانية كحرية الفرد و كرامته, و أخلاق المجتمع و حرماته, كل ذلك من أجل الوفرة في الإنتاج المادي. أما في الفكر الإسلامي فإن القيمة العليا هي الإنسان, و ليس معتى هذا إهمال الإسلام للإنتاج المادي لكنه ليس هو القيمة العليا التي تهدر من أجلها خصائص الإنسان, و الحضارة في الإسلام لا تتوقف على درجة معينة من التقدم الصناعي و الاقتصادي و العلمي و إن كانت تطور هذه المجالات بشكل ذاتي بطريقة متوافقة مع طبيعتها و خادمة للقيمة العليا فيها و هو الإنسان. لكن الحضارة تظل قائمة في المجتمع الإسلامي الحقيقي و لو مع بدائية هذه المجالات.
إن مقومات الحضارة في الإسلام روحية أكثر من كونها مادية. يتحرر فيها الإنسان من كل أشكال العبودية و لا يصرفها إلا لله وحده, و يستعلي بإنسانية الانسان على المادة, و تسود فيه القيم الإنسانية التي تنمي فيه إنسانية الإنسان لا حيوانيته, وتكون المبادئ هي أساس الروابط بين الناس لا العرف واللون و الأرض. و يحقق الإنسان الخلافة في الأرض على عهد الله و شرطه و شريعته العليا.
إن المراقب لأزهى عصور الحضارة الإسلامية – النبوة و الخلافة الراشدة- يلحظ نقلة كبيرة في إنسانية الإنسان , ارتقاء في تصور أصل الأنسان و دوره المنوط به في الحياة, ارتقاء في جانب النظافة و طهارة الباطن و الظاهر, الرحمة بالناس و رفع الإصر عنهم و إصلاح دينهم و دنياهم.
إن بعض من يتناول الحضارة الإسلامية على أنه الإبداع في بناء المساجد و القصور في الأندلس مثلا. ما علم أنه يتناول مظهرا للركون إلى الدنيا و الترف الذي كان السبب في انهيار و ضياع الحضارة في الأندلس بعد أن قامت في تلك البلاد بالجهاد و إعلاء كلمة الله.


التعليقات