المتأمل في تطبيقات المنهج الديمقراطي يجد نفسه أمام صورة من صور الاستبداد، لكنه استبداد من نوع فريد، يمكن أن نسميه بالاستبداد الطوعي.
لكن اللطيف في هذه الديكتاتورية أنها طوعية لا قسرية، اختيارية لا جبرية، تتسلط على الشعوب وهم يصفقون لها ويهتفون باسمها.
فلو تأملنا حال أكبر الديمقراطيات في العالم يتبين لنا أن السلطة بيد النخبة السياسية والرأسمالية وهي متشبثة بها لا تدعها، وإن تغيرت فيها الوجوه. ففي أمريكا مثلا السلطة محتكرة من حزبين رئيسيين –الجمهوري والديمقراطي- لا تخرج عنهما، و هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة تسيران على خط استراتيجي واحد، وإن اختلفت بعض الرؤى والسياسات الداخلية و الخارجية. أما تعدد الرؤساء فلا يمثل إلا لعبة تبديل الأقنعة من وقت لآخر, ويكون فيها صناع القرار ثابتون خلف هذه الاقنعة. وعلى نفس الطريقة حزبي العمال والمحافظين في بريطانيا وهكذا.
وفي هذا النمط من الديكتاتورية يكون السلطة فيها للنخب أصحاب النفوذ والمال وملاك الإعلام لترسم سياستها لا لصالح الشعوب ولكن وفق ماتقتضيه أيديولوجيا النخبة ومصلحتهم السياسية بل حتى الاقتصادية الخاصة. والموقف الأمريكى والغربي عموما تجاه قضية إسرائيل وكذا حال شركات السلاح واستفادتها من حربي أفغانستان والعراق مع مافيه من إرهاق للميزانية الأمريكيه أمثلة جلية على هذا الطرح.
لكن اللطيف في هذه الديكتاتورية أنها طوعية لا قسرية، اختيارية لا جبرية، تتسلط على الشعوب وهم يصفقون لها ويهتفون باسمها. ويكون ذلك بإغداق بعض المال والكثير من الترف المعيشي من جهة، ثم خداعه بإيهاميه أنه صاحب قراره، وأن السيادة فى الدولة لإرادته، وهو من يختار حاكميه ويعزلهم عن طريق الانتخابات النزيهة التى ليست إلا عملية شراء أصوات وذمم، يصل فيها تكاليف الدعايا الانتخابية لمليارات الدولارات ليُشترى بها الإعلام والأفراد وكل شىء.
أما هذا النمط من الاستبداد الناعم فإنه يتسلط على العقول فيسلبها من أصحابها لتكون كقطيع وراء (راعى البقر) لا يفيق من سكرته أبدا، فينزع عنه أسمى القيم الإنسانية وهي قيمة الاختيار والتبعية الفردية.
وهنا يبرز أخطر مافي هذا النمط من الديكتاتورية، وهو ما يمكن تسميته بالاستبداد الناعم، حيث يُتسلط على الشعوب بكل يسر وبدون أن تشعر هذه الشعوب أو تدرك بأنه يُمارس عليها أى صورة من صور الاستبداد. استبداد يرفع راية الحرية ويلعن المستبدين!! ويكون سبيله فى ذلك بالقمع الفكري الذى لا يستخدم فيه القوة ولكن عن طريق غسيل الأدمغة وتخدير العقول وتوجيهها بسلاسة لاختيار مايريده المستبد ليحركها بشكل لا إرادي تتوهم معه الشعوب أنها هى التى تريد لا أنه يُفرض عليها إرادة غيرها.
وخطورة هذا الأمر يتمثل فى أن الاستبداد القهرى يسيطر على الأجساد ولكنه لا يتحكم في العقول ولا يصادرها ويمسخها، لتكون مستعدة عند أي فرصة من غفلة المستبد عنها أن ترفع قيد الاستبداد وتتحرر. أما هذا النمط من الاستبداد الناعم فإنه يتسلط على العقول فيسلبها من أصحابها لتكون كقطيع وراء (راعى البقر) لا يفيق من سكرته أبدا، فينزع عنه أسمى القيم الإنسانية وهي قيمة الاختيار والتبعية الفردية.
ولكن إذا استفاق الشعب من سباته، واكتشف حقيقة خداعه، فإن ديمقراطية الحريات أو الديكتاتورية الناعمة ستكشر عن أنيابها كما شاهدناها عند قمع المظاهرات السلمية فى أمريكا وأوروبا.
التعليقات