أجهزة الشرطة والهيمنة الأمريكية

(في أي مكان تذهب إليه يكون الشرطي شرطيًا. هناك نوع غريب من الأخوة المهنية بين أفراد الشرطة) جون مانوبولي، مستشار أمني.

تتعدد وتتنوع الدراسات التي تتناول ما يُسمى بإصلاح القطاع الأمني، والذي يندرج ضمن مواضيعه إصلاح قطاع الشرطة. ولكن يركز هذا المنظور على التعامل مع قضية الإصلاح في كل بلد بشكل منفرد. وعلى الجانب الآخر نجد بعض التنظيرات التي تناولت دور أجهزة الشرطة ضمن إطار عالمي أوسع، وهو ما يتجلى في كتاب (شارات بلا حدود) الذي نشره ستيوارت شريدر في عام 2019، وتناول فيه دور أجهزة الشرطة عالميا ضمن منظومة الهيمنة الأمريكية.

فحسب ستيوارت إن مشروع الهيمنة الأميركي يقوم على ضمان الأمن القومي الأميركي من خلال ضمان الأمن الداخلي لجميع دول العالم، وهو ما يتحقق عبر الاعتماد على الوكلاء المحليين لإدارة تحديات الحكم. وضمن هذا المنظور اعتمدت واشنطن على دعم مساعدة مؤسسات الشرطة الأجنبية في القيام بدورها كخط دفاع أول عن المصالح الأمريكية.

بعد الحرب العالمية الثانية

في عام 1948، رأى محللو وكالة الاستخبارات المركزية في دراسة بعنوان “تفكك الإمبراطوريات الاستعمارية وانعكاساتها على الأمن الأمريكي” أن قضيتي إنهاء الاستعمار والصراعات العرقية تشكلان المأزق الذي تواجهه القوة العالمية للولايات المتحدة.

دعت الدراسة إلى تجنب التدخل الأمريكي المباشر، وصياغة تكامل عالمي موات تحدد خلاله أجهزة الأمن القومي ما إذا كانت هناك تهديدات ناشئة خارج الحدود، وتضع أدوات لتوقعها وإدارة التهديدات التي تشكلها.

وقالت الدراسة إن النظام الاستعماري الأوروبي قد خرج من الحرب العالمية الثانية بأضرار بالغة ومن المرجح أن يتفكك أكثر، مما سيخلق فراغا في السلطة في العديد من المناطق لن تتمكن الولايات المتحدة بالضرورة من شغله. ورجحت أن تصطف الدول الجديدة سياسياً استناداً إلى التضامن العرقي الديني والتطلعات الاقتصادية المشتركة. وهو ما قد يصب في صالح الاتحاد السوفياتي. وحذرت الدراسة بأنه في هذا الوضع ستُتهم واشنطن بالنفاق والإمبريالية في حال دعمها للقوى الأوروبية التي تسعى للتمسك بمستعمراتها المتبقية.

وبالتالي دعت الدراسة إلى تجنب التدخل الأمريكي المباشر، وصياغة تكامل عالمي موات تحدد خلاله أجهزة الأمن القومي ما إذا كانت هناك تهديدات ناشئة خارج الحدود، وتضع أدوات لتوقعها وإدارة التهديدات التي تشكلها. وفي هذا الإطار تظهر منظومات الشرطة كأحد أدوات فرض السيطرة بجوار التجارة والأسواق والمواد الخام والتمويل. وضمن هذا السياق برزت الإصلاحات التقنية الحديثة لتحديث هياكل أجهزة الشرطة في أنحاء العالم كوسيلة لترسيخ الهيمنة الأمريكية. فأميركا لن تستطيع خوض حروب ساخنة ضد كافة الناس العاديين الذين ينشدون التغيير والثورة لكن يمكنها إحباط أنشطتهم بواسطة أجهزة الشرطة المحلية للدول الحليفة والمتعاونة.

أوجه الدعم

تمثلت أبرز أوجه المساعدة الأمنية الأمريكية لأجهزة الشرطة الحليفة في ثلاث مجالات رئيسية تشمل:

  • المساعدة التقنية مثل المساعدة في إنشاء الاتصالات أو مختبرات الفحص الجنائي أو تأسيس وحدات المراقبة أو تصميم وبناء السجون.
  •  المساعدة المادية، من خلال توفير البنادق والغاز المسيل للدموع والمركبات وأجهزة الراديو والكاميرات.
  • التدريب، سواء في الدول الحليفة أو في الولايات المتحدة أو في بعض الأحيان في دول ثالثة. ويشمل التدريب: الأمور اللوجستية، ومكافحة الشغب والرماية والمراقبة وحفظ السجلات. فضلا عن توفير كتيبات التدريب.

وفي الحالة المصرية على سبيل المثال نجد أنه جرى إرسال سبعة ضباط شرطة إلى مدرسة المخابرات المركزية الأمريكية للحصول على دورة تدريبية مدتها ستة أسابيع…

بداية من النصف الأول من الخمسينات سافر عناصر من الشرطة الأمريكية إلى الخارج للعمل كمستشارين تحت إشراف وكالة المخابرات المركزية، وفي بعض الأحيان تحت رعاية الجيش أو وزارة الخزانة كما دربت وكالة الاستخبارات المركزية 150 عنصرا من أفراد أجهزة الشرطة الأجنبية خلال الفترة من 1951 إلى 1955 في مزرعة بفرجينيا ضمن برنامج يدعى السلامة العامة تحول اسمه لاحقا إلى برنامج الأمن الداخلي لما وراء البحار في عام 1957. وأشرف قسم الشرطة المدنية في إدارة العمليات الخارجية بواشنطن على أنشطة البرنامج. وفي يوليو 1962 فتحت أكاديمية الشرطة الأمريكية في منطقة قناة بنما أبوابها لتدريب الشرطيين الأجانب قبل أن تغلق في أبريل 1964. وخلال تلك الحقبة وصولا إلى سبعينات القرن العشرين، ساعدت أميركا قوات الشرطة في ما لا يقل عن 52 دولة مثل فيتنام الجنوبية وإيران وأوروغواي والأرجنتين والبرازيل، كما حضر ضباط من 77 دولة للتدرب في أكاديمية التدريب الأمريكية. وحسب ستيوارت فقد شارك 1500 فرد أمريكي في تدريب مليون ضابط أجنبي في الخارج.

وفي الحالة المصرية على سبيل المثال نجد أنه جرى إرسال سبعة ضباط شرطة إلى مدرسة المخابرات المركزية الأمريكية للحصول على دورة تدريبية مدتها ستة أسابيع في فنون مكافحة الجاسوسية، والمراقبة، وتأمين المنشآت والشخصيات الهامة، وأساليب التحقيق والاستجواب، وطرق جمع الأدلة. وتكونت تلك المجموعة من (عبد الفتاح رياض، أحمد الوتيدي، يسري الجزار، كوثر عبد القادر، محيي خفاجة، أنور نصار، محيي سالم). وعند عودتهم إلى مصر في منتصف عام 1954 رفقة كتب ومراجع وأجهزة فنية شكلوا نواة القاعدة العلمية لجهاز المخابرات، و جرى توزيعهم على جهازي المخابرات العامة والمباحث العامة.

عسكرة الشرطة

ضمن الجهود الأمريكية لمكافحة التمدد الشيوعي جرى نقل الخبرات الأمريكية المكتسبة في عمليات مكافحة التمرد بالفلبين إلى أجهزة الشرطة الأجنبية. فقد سبق لأميركا أن واجهت في الفلبين حرب عصابات شرسة خلال الفترة من عام 1899 إلى عام 1902. فخلال تلك الفترة تبلورت تكتيكات جديدة على العمل الشرطي من قبيل تكوين أرشيف معلومات يحتوي على إحصاءات عن السكان والجرائم أو الخصائص المميزة لتحديد هوية الأفراد بما في ذلك بصمات أصابع المشتبه بهم جنائيا، وربط وحدات الشرطة المتفرقة بقيادة مركزية. وقد ساهمت تلك الأساليب في تشكيل بنية تحتية بيروقراطية جديدة، وأنظمة تدريب شرطية جديدة، وبلورت أطر فكرية طورت من القدرات القسرية للدول. ومازلنا نرى حتى اليوم في العديد من الدول كيف أن أجهزة الشرطة التي تُصنف على أنها أجهزة مدنية تمتلك مدرعات قتالية ورشاشات ثقيلة ومروحيات وقذائف صاروخية وبنادق قنص فضلا عن وحدات التدخل السريع التي توازي في بنيتها القوات الخاصة بالمؤسسات العسكرية.

الإضافة التي يمثلها كتاب (شارات بلا حدود) هو أنه يقدم إطارا أوسع يساعد على ربط فهم تطور أجهزة الشرطة المحلية بالمستجدات الدولية. ويوضح كيف يتداخل البعد المحلي مع الدولي بحيث تستفيد الدول الكبرى من الأنظمة المحلية التابعة كخط دفاع أول ضد الطامحين إلى الحرية والتغيير.

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات