الوهم المتضخم.. من الاختيار إلى أفلاطون

خلال مجريات الحياة تتكون لدينا تصورات معينة حول الأشخاص والأحداث والكيانات. وقد تصل تلك التصورات إلى درجة من الرسوخ تحولها إلى مسلمات على خلفية كثرة ما نسمعه عنها ممن حولنا.

ونظرا لأن الأمثلة توضح المعنى المقصود، فسأضرب مثالين، الأول مرتبط بمسلسل الاختيار الذي يُذاع في مصر حاليا ويعمل على ترسيخ أسطورة الكتيبة 103 صاعقة التي تعرضت لهجوم مدمر في شمال سيناء منذ عدة سنوات.

والمثال الثاني يرتبط بما يتبادر إلى أذهاننا عند سماع تعبير(المدينة الفاضلة)، واسم الفيلسوف الإغريقي أفلاطون.

الحادث على المستوى العسكري كان يمثل انتكاسة لقوات الصاعقة، لكن الإعلام تدخل لاحقا لتصوير الانتكاسة على أنها انتصار، ورسم صورة بطولية لقوات نخبة تعرضت للإبادة على يد مسلحين غير نظاميين أضعف عتادا وأقل عددا.

الانتكاسة المعكوسة

يركز مسلسل الاختيار على قوة وكفاءة وبسالة قائد كتيبة الصاعقة أحمد المنسي ورفاقه، ويطلق على منسي وصف (الأسطورة) تماشيا مع وصفه بذلك في أغنية نشرتها سابقا الشئون المعنوية بالقوات المسلحة.

واقعيا، متى تأملنا الهجوم الذي قُتل فيه منسي ورفاقه، وهو هجوم سبق نشر لقطات فيديو مصورة له من قبل المهاجمين، نجد أن مشاهد الفيديو توضح أن المهاجمين لم يتجاوز تسليحهم الأسلحة الآلية والرشاشات المتوسطة فضلا عن قواذف آر بي جي وسيارة مفخخة، في حين أن تسليح الكتيبة 103 صاعقة كان يضم العديد من المدرعات وعربات الهامر والرشاشات المتوسطة والثقيلة فضلا عن توافر غطاء جوي استهدف المهاجمين بقصف مكثف.

ورغم ما سبق، انتهى الهجوم بمقتل 26 فردا من قوات الصاعقة المدربة تدريبا متقدما وفي مقدمتهم قائد الكتيبة العقيد أحمد منسي، في حين قُتل من المهاجمين 7 أفراد حسب ما نشروه آنذاك من مشاهد مصورة وبيان مكتوب، فضلا عن تدميرهم لمقر تمركز الكتيبة 103 صاعقة.

أي أن الحادث على المستوى العسكري كان يمثل انتكاسة لقوات الصاعقة، لكن الإعلام تدخل لاحقا لتصوير الانتكاسة على أنها انتصار، ورسم صورة بطولية لقوات نخبة تعرضت للإبادة على يد مسلحين غير نظاميين أضعف عتادا وأقل عددا. ومن ثم جرت عملية صناعة بطولة وهمية.

وهم المدينة الفاضلة

كثيرا ما نسمع خلال لقاءات أو نقاشات قول أحد المتحدثين ينبغي أن ننظر للواقع، فنحن لا نعيش في المدينة الفاضلة. كما نسمع قول أحد الأصدقاء لمحاوره عندما يتحذلق (هل تظن نفسك أفلاطون)؟.

تلك التوصيفات تترك في خلد المستمع انطباعات عن مثالية وعدالة المدينة الفاضلة التي تكلم عنها أفلاطون، وحكمته التي جعلت البشرية تتوارث اسمه وتنقل كتبه. لكن من يقرأ كتاب (المدينة الفاضلة) لأفلاطون سيجد كمية لا بأس بها من الأفكار القمعية غير السوية بالمرة.

فأفلاطون قسم دولته المنشودة إلى 3 طبقات:

أما أبرز الغرائب فتمثلت في دعوة أفلاطون إلى شيوعية الأسرة (شيوعية النساء والأطفال) وتحريم الزواج في طبقتي المحاربين والحكام، زاعما أن ذلك سيشغل أفراد الطبقتين عن أداء وظائفهم.

  • الحكام: ووصفهم بأنهم يتسمون بفضيلة الحكمة ويوجهون الرعية ويحققون العدالة.
  • المحاربين: ووصفهم بأنهم يتسمون بفضيلة الشجاعة ويحرسون المدينة ويدافعون عنها.
  • المنتجين: ووصفهم بأنهم يتسمون بفضيلة العفة وينتجون حاجيات المجتمع من زراعة وصناعة وما شابه.

ورأى أفلاطون أن العدالة ستتحقق من خلال التزام كل طبقة من الطبقات الثلاثة بوظيفتها دون التدخل في شئون الطبقات الأخرى، ثم زعم أن الحكم من حق الفلاسفة وحدهم لأن دراسة الفلسفة ترتفع بأصحابها إلى المثل العليا، وبالتالي فإن الفلاسفة هم الجديرون بتحقيق العدل والخير والسعادة للمواطنين نظرا لأنهم يتسمون بفضيلة الحكمة، وتتغلب قوتهم العقلية على قوتهم الشهوانية والغضبية.

ونظرا لحرص أفلاطون على تحقيق الوحدة في دولته المثالية، فقد رأى أن شيوعية الممتلكات في طبقة الحكام والحراس ستحقق وحدة المجتمع، وتقضي على انشغال أفراد الطبقتين عن أداء مهامهم، وأوجب على الدولة أن تكفلهم. بينما سمح أفلاطون للطبقة المنتجة بوجود ملكية خاصة، وهو بذلك قسم المجتمع بناء على المهنة لا الثروة مثلما فعلت الشيوعية الحديثة.

أما أبرز الغرائب فتمثلت في دعوة أفلاطون إلى شيوعية الأسرة (شيوعية النساء والأطفال) وتحريم الزواج في طبقتي المحاربين والحكام، زاعما أن ذلك سيشغل أفراد الطبقتين عن أداء وظائفهم. وبالتالي دعا إلى شيوعية العلاقات الجنسية بحيث ينظر الشخص إلى كل الأطفال على أنهم أولاده، وكل الكبار على أنهم آباؤه وأمهاته، كما دعا إلى إشراك المرأة في كافة الأعمال العامة في حين تقوم الدولة بتربية الأطفال في ظل عدم معرفتهم بهوية أمهاتهم.

تلك الأفكار الأفلاطونية كانت محل نقد كبير تمحور حول أن:
  • الإنسان بطبيعته يهتم بما يمتلكه شخصيا ويعود عليه بالنفع، وأن غياب الحافز الفردي والملكية الشخصية سيؤدي إلى تدهور النشاط الاقتصادي.
  • عدم توزيع الثروات حسب الجهد المبذول والكفاءة يؤدي إلى انتشار الضغينة بين المواطنين واضطراب المجتمع.
  • شيوعية الأولاد والنساء ستؤدي إلى انهيار الأسرة التي هي المكون الأساسي للمجتمع والدولة.
  • شيوعية النساء ستؤدي إلى رذيلة الزنا، وتقضي على فضيلة العفة، كما ستؤدي إلى انتشار الرذائل والفواحش في المجتمع.
  • ستضعف العناية بتربية الأولاد حين لا يدري الفرد من هم أولاده.

وفي الواقع، كانت أفكار أفلاطون مصادمة للفطرة الإنسانية، ومؤدية إلى خلق دولة مشوهة اجتماعيا واقتصاديا، بل وتؤدي إلى انتشار الفوضى وانهيار الدولة بدلا من نهوضها ووحدتها، ومن ثم لم يأخذ أحد أفكار أفلاطون على محمل الجد والتنفيذ لمصادمتها لأساسيات الفطرة الإنسانية.

ورغم ما سبق، يجد الكثيرون أن تصوراتهم المسبقة عن أفلاطون وكتابه تتمثل في أنه شخصية عظيمة ألفت كتابا عظيما عن دولة نموذجية تحتاج إلى صنف ملائكي من البشر، في حين أنها في الحقيقة أفكار كفيلة بتدمير أي مجتمع بشري. وهنا يتضح دور الأوهام التي تنتقل لنا من محيطنا الاجتماعي عبر سماع الإشادة المتكررة بأسماء وأحداث وأشياء معينة سرعان ما نكتشف حين ملامستها أنها محض هراء.

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات