تجربة القوزاق في روسيا

خلال الإعداد لكتابة دراسة بحثية عن الشركات الأمنية والعسكرية الروسية الخاصة، اطلعت في بعض الدراسات الأجنبية على تجربة الدولة الروسية في توظيف القوزاق لخدمة مصالحها، وهو ما لم أصادفه سابقا في دراسات منشورة باللغة العربية رغم أهميتها. وقد تعرضت دراسة للباحثين تور بوكفولا و(Åse Østensen) بعنوان (الاستخدام الروسي للشركات الأمنية والعسكرية الخاصة: تداعياتها على الأمن النرويجي والأوربي) لتجربة القوزاق بشكل موجز ومفيد. وهي دراسة نشرتها مؤسسة الأبحاث الدفاعية النرويجية في عام 2018 في ظل الاهتمام النرويجي بالأنشطة الروسية نظرا لتقارب الحدود بين الدولتين، ووجود سوابق من الحروب التاريخية بينهما.

من هم القوزاق؟

يعود مصطلح القوزاق إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلاديا، ويشير في الأصل إلى مجموعات من الرجال اشتهروا بالشجاعة، وعاشوا كتجار رحل ومرتزقة وقطاع طرق في السهوب على حدود بولندا وليتوانيا وروسيا أي أنهم لا يمثلون عرقية معينا إنما يمثلون هوية اجتماعية محددة. وقد تجنبوا العمل بالزراعة مقابل الانخراط في الدفاع عن الحدود الجنوبية والشرقية لروسيا. وعبر التاريخ اتسمت علاقة القوزاق بالدولة الروسية بالتأرجح حيث نُظر إليهم كطبقة محاربين يخدمون مصالح موسكو أحيانا، ونُظر إليهم أحيانا أخرى كتحد يهدد هيمنة الدولة. وهو ما انعكس على تعامل موسكو معهم عبر منحهم امتيازات خاصة في بعض الأوقات أو قمعهم والتضييق عليهم في أوقات أخرى.

خلال توسع الإمبراطورية الروسية في القرنين الثامن والتاسع عشر شكل القوزاق تهديدا لموسكو بسبب عملهم كمرتزقة وإيوائهم للمجرمين المطلوبين، وشنهم لهجمات على المناطق الحدودية. ولكن لتجنب مشاكلهم عقدت معهم موسكو اتفاقا منحتهم بموجبه حقوقًا خاصة في الموارد الطبيعية ووفرت لهم درجة من الاستقلال الإداري في المناطق التي استقروا فيها مقابل الدفاع عن هذه الأراضي نيابة عن الدولة الروسية، فشكلوا حاجزا أرثوذكسيا أمام الجنوب الإسلامي. وعند شن القوزاق لغارات على الأراضي العثمانية كانت موسكو تتنصل من مسئوليتها عنهم وتزعم أن أفعالهم لا تمثلها رغم أن القيصر كان يزودهم بانتظام بالإمدادات والذخيرة. وبهذه الطريقة استخدم القيصر القوزاق عند الحاجة وأبقاهم على مسافة منه تسمح له بالتنصل من أفعالهم.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أعيد بعث القوزاق مجددا، فأصدر يلتسين عدة مراسيم مهدت الطريق لاستعادة العلاقة بين القوزاق والدولة الروسية، وضمن لهم وضع “دولة أرخبيل” داخل روسيا..

ورغم ذلك، انقلب القوزاق على الإمبراطورية، وقادوا ثورتين كبيرتين في القرن الثامن عشر. لكن بعد أن سحق القيصر ثورات القوزاق  أدرجهم كطبقة عسكرية خاصة داخل القوات الإمبراطورية، واستخدمهم ككتائب نخبة في الحملات العسكرية لتوسيع الإمبراطورية في القوقاز وسيبيريا وآسيا الوسطى. كما استخدمهم كقوات شبه عسكرية لطرد أو قتل المسلمين واليهود داخل الإمبراطورية.

ومع اندلاع الثورة الشيوعية قاتل القوزاق مع أكثر من طرف، فقاتل بعضهم في صفوف الروس البيض المناهضين للثورة، وقاتل البعض الآخر ضمن جيوش القوزاق المستقلة في حين قاتلت مجموعة ثالثة في صفوف الثورة الشيوعية الحمراء. وفي المقابل، أطلق البلاشفة الشيوعيون في يناير 1919 برنامج “القضاء على القوزاق”  انتقاما من قتال بعض القوزاق إلى جوار الروس البيض، مما أدى إلى مقتل أكثر من 1.5مليون قوزاقي، وتوزيع العديد من المجموعات المتبقية منهم على مناطق مختلفة. ولكن مع اشتعال الحرب العالمية الثانية، أعيد إحياء كتائب القوزاق مرة أخرى لمحاربة النازيين حيث شكلوا 17 فيلقا ضمن الجيش الأحمر السوفيتي في حين قاتل بعضهم في صفوف الألمان. وقد عانى القوزراق عقب انتهاء الحرب من عمليات عمليات تطهير نفذها ستالين ضدهم. وخلال الفترة المتبقية من الحقبة السوفيتية، اتخذت موسكو إجراءات صارمة ضد القوزاق لكنها فشلت في القضاء على هويتهم.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أعيد بعث القوزاق مجددا، فأصدر يلتسين عدة مراسيم مهدت الطريق لاستعادة العلاقة بين القوزاق والدولة الروسية، وضمن لهم وضع “دولة أرخبيل” داخل روسيا تتكون من 12 منطقة اتحادية يرأسها مجلس مسؤول أمام الرئيس مباشرة. وجرى تكليف القوزاق بمهام شرطبة وعسكرية مجددا.  وبحلول عام 1995 وُظف القوزاق كحراس محليين  يقومون بدوريات في العديد من المدن الروسية. كما أعادت إصلاحات يلتسين تأسيس أفواج القوزاق وأعيد تشغيل القوزاق كحرس حدود كما مُنحوا الحق في تأسيس شركات أمنية، وبحلول عام 1997 كانت العديد من شركات الأمن الخاصة في روسيا تتكون من عناصر قوزاقية.

صعود القوزاق في ظل حكم بوتين

نفذ القوزاق المهام التي فضلت السلطات الرسمية تجنب القيام بها مثل تهجير الأقلية العرقية التركية من جنوب كراسنودار في عام 2005  عبر شن هجمات على منازل الأتراك ومقار عملهم.

مع تولى فلاديمير بوتين للسلطة روج بوتين لشجاعة القوزاق وإيمانهم الأرثوذكسي وتمسكهم بالقيم المحافظة والولاء للدولة الروسية، وأعرب القوزاق في المقابل عن دعمهم القوي لبوتين. فصدر قانون في 2005 تحت اسم (القوزاق الروس في خدمة الدولة) سمح لأكثر من 600 ألف من القوزاق بالقيام بوظائف مختلفة كانت عادة ما تسيطر عليها الدولة. وشمل ذلك الدفاع عن المناطق الحدودية، وحراسة الغابات، وتنظيم التدريب العسكري للطلاب الصغار، ومكافحة الإرهاب، وحماية مباني الحكومة المحلية والمواقع الإدارية، وصولا لإنشاء فوج القوزاق الجديد في الجيش، وإنشاء مدارس القوزاق العسكرية.

نفذ القوزاق المهام التي فضلت السلطات الرسمية تجنب القيام بها مثل تهجير الأقلية العرقية التركية من جنوب كراسنودار في عام 2005  عبر شن هجمات على منازل الأتراك ومقار عملهم. كما عمل القوزاق كمرتزقة خلال القتال في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والشيشان ويوغوسلافيا السابقة، كما شارك الآلاف منهم في الحرب الروسية ضد جورجيا في عام 2008. كما لعبوا دورًا مهمًا في الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم وكذلك في الحرب بشرق أوكرانيا رغم مشاركة بعض القوزاق الأوكرانيين في القتال بجانب أوكرانيا. كما شارك القوزاق في مهام حفظ الأمن خلال دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014 في سوتشي، وتأمين فعاليات كأس العالم لكرة القدم 2018، ومواجهة المظاهرات المناهضة لبوتين في موسكو بعد الانتخابات الرئاسية في عام 2018.

ويذهب الباحث المختص في الشأن الروسي جالوتي إلى أن القوزاق يشرف عليهم حاليا جهاز الاستخبارات العسكرية (GRU) التابع لهيئة الأركان العامة بالجيش الروسي.

تشير تجربة القوزاق إلى ميل موسكو لتوظيف جهات فاعلة غير حكومية لتنفيذ مهام يُفترض أن تقوم بها الدولة، وهو ما يساعدها في التنصل من تبعات أنشطة القوزاق في حال جلبها لتحفظات دولية وإقليمية.

 

المصدر:

Tor Bukkvolla and Åse G. Østensen, Russian Use of Private Military and Security Companies

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات