حادث مقتل جورج فلويد على يد عناصر من الشرطة وما أعقبه من تظاهرات وأعمال شغب أعاد للواجهة الجدل حول تجاوزات الشرطة الأمريكية والمطالبات بإصلاحها.
برزت في ذلك السياق عدة توصيات من قبيل تطوير تدريب قوات الشرطة، وزيادة عدد عناصر الشرطة من ذوي البشرة السوداء، وتحسين الرقابة على عناصر الشرطة ومحاسبتهم على السلوك غير اللائق عبر تركيب كاميرات على أجسادهم..
فمنذ عام 1900 حتى عام 2016 قتلت الشرطة في بريطانيا ما مجموعه خمسين شخصا بينما في عام 2016 بمفرده قتلت الشرطة الأمريكية 1093 شخصا بينما بلغ العدد 1146 قتيلا في عام 2015 حسب قاعدة بيانات قتلى الشرطة في أميركا الذي تشرف عليه جريدة الجارديان.
وبالتوازي مع ما سبق يوجد أكثر من مليوني أمريكي في السجن و4 ملايين آخرين تحت المراقبة أو الإفراج المشروط وهو ما يفقد معظمهم حق التصويت في الانتخابات، ويجعلهم يواجهون صعوبات شديدة في العثور على عمل عقب الإفراج عنهم بسبب سجلهم الجنائي.
هذا المشهد دفع العديد من الجهات والخبراء لدراسة أوجه الخلل في ممارسات الشرطة الأمريكية وكيفية تلافيه والبحث بشكل أخص في كيفية تقليل عدد الضحايا على يد عناصر الشرطة. وبرزت في ذلك السياق عدة توصيات من قبيل تطوير تدريب قوات الشرطة، وزيادة عدد عناصر الشرطة من ذوي البشرة السوداء، وتحسين الرقابة على عناصر الشرطة ومحاسبتهم على السلوك غير اللائق عبر تركيب كاميرات على أجسادهم، وهو المقترح الذي تبنته إدارة أوباما وضخت عشرات الملايين من الدولارات في ميزانيات الشرطة لتنفيذه.
لكن بالمقابل رأى عدد من النشطاء والباحثين اليساريين أن الإصلاحات المقترحة لن تؤدي إلى حل المشكلة بينما ستعمل فقط على تحسين كفاءة بيروقراطية الشرطة. ومن بين هؤلاء أليكس فيتالي في كتابه (The End of Policing) الذي صدرت الطبعة الأولى منه في عام 2017.
نظرية النوافذ المكسورة والنقد الماركسي لها
يجادل أليكس بأن الشرطة الأمريكية تعمل وفق نظرية النوافذ المكسورة التي صاغها عالما الإجرام جيمس كيو ويلسون وجورج كيلنج في كتاب بعنوان (النوافذ المكسورة: الشرطة وسلامة الجوار). وتستند تلك النظرية إلى مثال عملي، وهو أنه عند ترك سيارة ما دون مراقبة في الشارع فإنها غالبا ستبقى سليمة. ولكن متى كانت نافذة واحدة فقط من السيارة مكسورة، فستزيد احتمالية تعرض السيارة للسرقة بشكل سريع.
وقد جادل ويلسون وكينج بأن هذا المثال يُستفاد منه أنه في حال الفشل في توفير أجواء من الرعاية والحماية فإن الغرائز الوحشية والميول المدمرة الكامنة لدى البشر ستخرج من عقالها. وبناء على ذلك ففي حال الرغبة في الحفاظ على أحياء المدن من انتشار الجريمة، فلابد من اتخاذ إجراءات تضمن إشعار السكان بخضوعهم للمتابعة والمراقبة كي يمتثلوا للمعايير المتحضرة للسلوك العام، وهو ما يتحقق عبر استخدام الشرطة لتذكير المواطنين بطرق خفية ومعلنة أن السلوك غير المنضبط أمر غير مقبول.
من جهته انتقد أليكس فيتالي نظرية النوافذ المكسورة قائلا أنها تتبنى منظورا يقلب العلاقة السببية بين الجريمة والفقر، حيث تلقي المسؤولية عن تدهور الظروف المعيشية الدافعة للجريمة على الفقراء أنفسهم. كما يرى فيتالي وفق منظوره الماركسي أن منظومة الشرطة لا تعمل في جوهرها للمساعدة في الحفاظ على سلامة النظام الاجتماعي، إنما تعمل ضمن منظومة أوسع تتضمن ترتيبات سياسية واقتصادية واجتماعية تزيد من الفجوات الجذرية بين من يملكون ومن لا يملكون، مما يدفع بشكل منهجي إلى ظلم الفقراء والمهمشين اجتماعياً وغير البيض.
إصلاحات متوهمة
يناقش فيتالي الإصلاحات المذكورة سابقا لإصلاح الشرطة الأميركية بشكل نقدي:
- فبخصوص تحسين التدريب، يقول فيتالي إن عناصر الشرطة في أميركا يتلقون ابتداء قدرا كبيرا من التدريب، والعديد منهم لديهم خبرة جامعية أو عسكرية سابقة. كما توجد في العديد من الولايات الأمريكية وكالات تضع خطط تدريب متطورة، وتقدم المشورة بشأن أفضل الممارسات الشرطية. ولكن فيما تركز التدريبات على الانضباط الصارم والتقيد بالقوانين والقواعد المنظمة لعمل الشرطة، فإن أول درس يتعلمه ضابط الشرطة من أقرانه عندما يبدأ في العمل (لابد أن تنسى كل ما تعلمته في أكاديمية الشرطة).
ويضيف فيتالي أنه عندما يتعرض ضابط الشرطة لمواقف عملية فإنه يتخيل أن نهايته قد تصبح وشيكة على يد من يطاردهم، فيسارع لاستخدام القوة عند أدنى استفزاز. ومن ثم فإن التجاوزات تقع بسبب الطريقة التي صُمم بها عمل نظام الشرطة لا بسبب التحيزات أو سوء فهم الضباط فقط. - وبخصوص مقترح زيادة عدد أفراد الشرطة من ذوي البشرة السوداء، يجادل فيتالي بأن السود يشكلون 13% من نسبة السكان في الولايات المتحدة كما تبلغ نسبتهم من أفراد الشرطة 12% أي أن النسبة متماثلة بالفعل.
وفي حين أن المراهقين السود أكثر احتمالية للتعرض لنيران الشرطة من المراهقين البيض بما يصل إلى واحد وعشرين مرة، يعزو فيتالي ذلك إلى عقلية عناصر الشرطة التي ترى أن الأشخاص الملونين يرتكبون المزيد من الجرائم وبالتالي يجب أن يخضعوا لممارسات أكثر صرامة. ولذلك يذهب أليكس فيتالي إلى أنه لا يوجد دليل يشير إلى أن زيادة نسبة الضباط من السود ستقدم حلاً مباشراً للمشكلة. - وبخصوص مقترح زيادة الرقابة على عناصر الشرطة عبر تركيب كاميرات، يقول فيتالي أنه خلال السنوات العشر السابقة لصدور كتابه، اتُهم 54 ضابطا فقط بإطلاق النار بشكل قاتل تجاه ضحاياهم أثناء الخدمة، ومن بين هؤلاء أدين 11 فردا منهم حيث بلغ متوسط مدة العقوبة أربع سنوات بينما عوقب البعض الآخر بالسجن بضعة أسابيع فقط. وعزا فيتالي تلك الأحكام المخففة إلى عقلية هيئات المحلفين المتأثرة بالثقافة الشعبية والخطاب السياسي الذي يركز على محورية دور الشرطة في الحفاظ على سلامة المجتمع والطبيعة الخطرة لعملهم. بل ويضيف أن إحدى الدراسات المحلية خلصت إلى أن أقسام الشرطة التي تستخدم الكاميرات لديها معدلات أعلى من عمليات إطلاق النار.
حلول مقترحة
وفي المقابل، يقترح أليكس فيتالي عددا من الحلول من بينها:
- التشجيع على المزيد من الرقابة العامة من خلال إشراك المدنيين في هيئات صنع القرار الرئيسية بالأجهزة الشرطية بحيث يُختار هؤلاء الأشخاص من قبل المجتمعات المدنية بدلاً من الشرطة أو القادة السياسيين.
- الحد من تسليح عناصر الشرطة اقتداء بالنموذج البريطاني بذريعة أن من غير المرجح أن يطلق الشخص المشتبه به النار على ضابط أعزل، في حين أن هذا الشخص سيكون أكثر عنفا عند تعامله مع ضابط قد يقتله، وهو ما يرفع من عدد القتلى من الجانبين.
- توجيه الإنفاق الحكومي لمزيد من المشاريع التي تعالج التفاوتات الاجتماعية، وتوفر المساكن وفرص العمل للفقراء بدلا من إنفاقها على بناء السجون وتسليح الشرطة بمزيد من الأسلحة. فحسب فيتالي بلغ متوسط تكلفة سجن الفرد الواحد ممن ليس له مأوى في ولاية يوتاه 16 ألف دولار سنويا في حين أن قسط توفير سكن له يبلغ 11 ألف دولار فقط.
توفر الشريعة حزمة من الإجراءات والواجبات الفردية والمجتمعية التي توفر الكفاية والحماية للبشر مما يحدث توازنا مجتمعيا يحد من مسببات الجريمة ويقوض دوافعها.
الخاتمة
كتاب أليكس فيتالي من الكتب الشيقة التي تقدم قراءة غير تقليدية لمنظومات عمل الشرطة الأمريكية، كما يكشف أن الإشكالات الكامنة في المنظومات الشرطية عميقة ولا تقتصر على دول بعينها بل تمتد حتى للعديد من الدول الغنية. لكن بالمقابل توجد في الكتاب نقاط ضعف جوهرية مرتبطة بغياب النظرة المتكاملة للإنسان والغرض من وجوده في الحياة. فعلى سبيل المثال يشدد المؤلف على أهمية تقنين الدعارة باعتبار أن ذلك يكفل الحماية المادية والصحية للمرأة الداعرة ضد تجاوزات القوادين وعصابات الاتجار بالبشر بينما في المنظور الإسلامي توجد رؤية متكاملة تكشف تكريم الخالق سبحانه وتعالى للإنسان وتنزيهه عن التحول إلى سلعة بيد الرأسماليين أو ضحية بيد الديكتاتوريين، كما توفر الشريعة حزمة من الإجراءات والواجبات الفردية والمجتمعية التي توفر الكفاية والحماية للبشر مما يحدث توازنا مجتمعيا يحد من مسببات الجريمة ويقوض دوافعها.
التعليقات