جدلية سيادة الدولة والتدخل الإنساني

تشتعل العديد من البلاد العربية بحروب دامية تؤجج لهيبها دول كبرى. ومنذ الغزو الأميركي للعراق بذرائع واهية انفرط تماسك المنظومة الإقليمية العربية، وانكشفت حقيقة معظم الأنظمة العربية التي سارع بعضها للاستنجاد بدول أجنبية مثلما فعل النظام السوري حين استعان بإيران وروسيا، فيما تدخلت دول أخرى لتشعل حروبا بالوكالة عبر مليشيات محلية مثل فعلت مصر وفرنسا والإمارات في ليبيا من خلال خليفة حفتر.

وعلى المستوى العالمي أصبح الحديث حول حقوق الإنسان ينافس سيادة الدولة حيث تحول إلى لغة معيارية سائدة في الشؤون الدولية.

وفي ظل تلك الأجواء تهاوى مصطلح سيادة الدولة أمام المبررات المتنوعة للتدخل في الشئون الداخلية للدول المستهدفة. فبينما رفعت موسكو شعار احترام سيادة الدولة والاستجابة لاستغاثات نظام الأسد لتبرير تدخلها في سوريا، رفعت أميركا شعار التدخل الإنساني لتبرير غزوها للعراق رفقة بريطانيا ودول أخرى دون أي غطاء من القانون الدولي.

وعلى المستوى العالمي أصبح الحديث حول حقوق الإنسان ينافس سيادة الدولة حيث تحول إلى لغة معيارية سائدة في الشؤون الدولية. وتبنت الدول الكبرى الحق في التدخل العسكري في شؤون الدول الأخرى لحماية مواطنيها من القمع والاضطهاد.

تبلور مفهوم سيادة الدولة

أرسى صلح ويستفاليا عام 1648 الذي أنهي ثلاثين عاما من الاقتتال الطائفي بين البروتستانت والكاثوليك عددا من المبادئ السياسية في أوروبا من أبرزها مبدأ سيادة الدولة والذي بموجبه صارت الدولة المستقلة هي الوحدة الأساسية في النظام الدولي، بحيث تتمتع كل دولة بالسيادة على أرضها. وتمتنع الدول الأخرى عن التدخل في الشئون الداخلية لغيرها من الدول.

ويمكن تعريف السيادة بأنها: هي السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة أخرى. وهو ما يعني أن الدولة ذات السيادة هي التي تسن القوانين المطبقة فوق أراضيها، وتتمتع بالاستقلال السياسي، والمساواة القانونية مع غيرها مع الدول.

ظل مبدأ السيادة يمثل أحد مرتكزات القانون الدولي والعلاقات الدولية وصولا إلى نهاية الحرب الباردة التي شهدت انتشارا للفكر الليبرالي الذي عمل على إعادة صياغة مفاهيم العلاقات الدولية مثل (السيادة الوطنية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى)، فضلا عن تبني مفاهيم جديدة تعبر عن تصورات الفكر الليبرالي في العلاقات الدولية مثل مبدأ التدخل الإنساني الدولي الذي يثير إشكاليات عديدة لتعارضه مع مبدأ سيادة الدولة.

مفهوم التدخل الإنساني

وبرز مفهوم التدخل الإنساني مع تزايد حضور مبادئ حقوق الإنسان في السياسة الدولية بعد تبني الأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948.

هو أحد أشكال التدخل الدولي الذي تقوم به دولة معينة أو مجموعة دول أو منظمات دولية لأهداف إنسانية في الشئون الداخلية لدولة أخرى بهدف حماية مواطنيها من الانتهاكات أو الإبادة أو لتقديم المساعدة لهم.

وقد ارتبط مفهوم التدخل الإنساني بمسائل العدالة والأخلاق ومبادئ حقوق الإنسان. وقد ظهرت 3 أجيال من المطالبات بحقوق الإنسان، وهي:

  • الحقوق المدنية والسياسية، مثل: التحرر من العبودية والتمييز، وحرية التعبير والتنقل.
  • الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافي، مثل:  الحق في التعليم والعمل، والرعاية الصحية، والضمان الاجتماعي.
  • حقوق التضامن، مثل الحق في التنمية، والحماية البيئية.

وبرز مفهوم التدخل الإنساني مع تزايد حضور مبادئ حقوق الإنسان في السياسة الدولية بعد تبني الأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 الذي بالرغم من أنه ليس معاهدة ملزمة قانونًا، إلا أنه صار يُنظر إليه على أنه شكل من أشكال القانون الدولي العرفي يستخدم كأداة لممارسة الضغط الدبلوماسي والأخلاقي على الحكومات التي تنتهك أيًا من مواده.

وقد تنوعت نظرة مدارس العلاقات الدولية لمفهوم التدخل الإنساني بناء على موقفها من دور الأخلاق في السياسة:

فالمدرسة الليبرالية نظرا لتبنيها فلسفة سياسية ترى أن الحكومة نشأت عبر عقد اجتماعي يصون حقوق المواطنين، فقد رأت أن استبداد الحكومة وقمعها للمواطنين يمثل خرقا لذلك التعاقد. ومن ثم دافعت المدرسة الليبرالية عن شرعية التدخل الإنساني، ووسعت مفهوم الحرب العادلة من تبرير استخدام القوة للدفاع عن النفس إلى مشروعية استخدام القوة للدفاع عن الآخرين أو حمايتهم.

وبرز توجهان داخل المدرسة الليبرالية، أحدهما يرى ضرورة التدخل الإنساني تحت مظلة الأمم المتحدة كي يتمتع بالشرعية، بينما رأى المذهب الآخر الذي تبناه رواد النزعة الإنسانية ضرورة التدخل الإنساني – ولو دون مظلة الأمم المتحدة- لوقف أعمال الاضطهاد ضد الأفراد والمجموعات في الدول الأخرى.

أما المدرسة الواقعية فقد رفضت مبدأ التدخل الإنساني لاعتبارها أن القيم والمبادئ الأخلاقية المطلقة لا تصلح أن تكون محركة لسلوكيات الدول إنما يجب أن تكون المصلحة الوطنية هي المحرك لذلك. ورأى الواقعيون أن التدخل الإنساني هو أحد مسببات الفوضى في النظام الدولي، وأنه يخفي أهداف الدول المتدخلة التي تحركها مصلحتها الوطنية.

مبدأ التدخل الإنساني تستخدمه الدول الكبرى واقعيا وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية لتبرير عدوانها على غيرها من الدول بذريعة حماية المواطنين ونشر الديمقراطية..

أما المدارس النقدية فجادل منظروها بأن النظرة الليبرالية التقليدية لحقوق الإنسان تركز على الحقوق المدنية والسياسية وتتجاهل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يؤدي غيابها إلى الظلم الاجتماعي. ومن ثم دعوا إلى إعادة توزيع السلطة والموارد. فيما ذهب منظرون آخرون إلى أن القيم تتفاوت من مجتمع إلى آخر، وأنه  يجب على العالم الخارجي احترام خيارات كل دولة التي تتناسب مع خصوصياتها الثقافية، ومن ثم رأوا أن مبادئ حقوق الإنسان تمثل أحد أشكال الإمبريالية الثقافية الغربية التي تُوظف من أجل تعزيز الهيمنة الغربية على العالم.

ولحل اشكالية تعارض مفهوم التدخل الإنساني مع مبدأ السيادة، سعى مؤيدو التدخل الإنساني إلى إعادة تشكيل مفهوم السيادة نفسه بحيث يصبح حق الدولة في السيادة مقيدا بوفائها بواجبها في حماية مواطنيها. فتطبيق ذلك عمليا يخضع لموازين القوى.

مبدأ التدخل الإنساني تستخدمه الدول الكبرى واقعيا وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية لتبرير عدوانها على غيرها من الدول بذريعة حماية المواطنين ونشر الديمقراطية مثلما فعلت في العراق، في نفس الوقت الذي تدعم فيه أميركا الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين، وتساند أنظمة استبدادية مثل نظام السيسي في مصر. وهو ما يبين خضوع المبادئ والمفاهيم السياسية للتوظيف من طرف القوى الكبرى، وتغليفها بما يحقق مصالح تلك الدول.

مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات