عندما بدأ أفقي يتشكل، كنت أنظر إلى الأدب والعلوم الإنسانية عموما نظرة دونية، فهي بالنسبة لي كالترف، أو المُلَح التي يستريح عندها الإنسان ليخرج من عناء العلم والعمل فيه، أعني العلم التجريبي، ولم يكن يخطر ببالي أن ألتحق بالقسم الأدبي في الثانوية العامة أصلا، بل كانت المفاضلة عندي بعد دخول القسم العلمي: علوم أو رياضة، فمكاني الطبيعي في المعامل أو المصانع، والأمة لن تنهض إلا بالعلوم التجريبية..
فالعلوم الإنسانية في حقيقتها فن الحياة، وكُنهها، والهدف منها، وضبط إيقاعها على معتقد وأيدلوجية منتحلة من العقل الجمعي للمجتمع..
هكذا كانت قناعاتي…
ومع الوقت، وتقدم العمر، وتراكم الخبرات أيقنت أن العلوم الإنسانية متقدمة على العلوم التجريبية، وحُبِّب إليَّ الأدب، وإن كنتُ لا أجيده، لكني أتذوقه، وأنتشي به، بل جادت السوانح بأن الأنبياء والرسل ما جاءوا إلا بالعلوم الإنسانية، فالعلوم الإنسانية في حقيقتها فن الحياة، وكُنهها، والهدف منها، وضبط إيقاعها على معتقد وأيدلوجية منتحلة من العقل الجمعي للمجتمع، تتحدد فيها أهدافه الجمعية، وترتسم خطاه الإجمالية، وبهذا تنضبط حركة المجتمع، وعلاقات أفراده ببعضها، وعلاقتها بخالقها تبارك وتعالى.
فلما كانت أمة العرب (متخلفة) في العلوم التجريبية عن الحضارات القريبة والبعيدة عنها، بالمقاييس المادية، لم يظهر الرسول صلى الله عليه وسلم كعالم فيزيائي أو كيمائي أو طبيب أو مهندس، لكي يعالج هذه المثلبة، بل بُعث ليعلم الناس رسالة من عند الله تبارك وتعالى تضبط المعتقد، وتحدد الماهية والهدف، والحال والمآل، بحيث يكون (الهدف) من الحياة واضحا، والمآل بعد الموت معلوما، فانطلقت جذوة الحضارة الفريدة، فكان العلم التجريبي ثمرة للعلم الإنساني.
وظهر الكثير من النوابغ في العلوم التجريبية نتيجة (ضبط إيقاع) العلوم الإنسانية، بل وتهذبت الحضارات القديمة المادية لتدخل (بتجربتها) المادية، وتنصهر في حضارة فريدة، لا مثيل لها، تتكامل فيها علوم الروح، ومعارف الجسد،، ولا تستقل أحدهما وتنمو بعيدة عن الأخرى، ولا تستأسد عليها، بل تتكامل، مع الاعتراف بالسابق واللاحق، وتنزيل كل منهما منزلته اللائقة.
التعليقات