يظن بعض القادة والزعماء أن بإمكانهم خداع الدول الكبرى وتوظيف مقدراتها لخدمة مشاريعهم وطموحاتهم الشخصية، بينما تثبت مجريات التاريخ أن الدول الكبرى هي التي تمسك بخيوط اللعبة، وبالتالي تتمكن من توظيف هؤلاء الزعماء لخدمة أهدافها وتنفيذ مخططاتها الإستراتيجية.
تتناول وثائق الأرشيف البريطاني محاولات شريف مكة الحسين بن علي التلاعبَ ببريطانيا وفرنسا كي تعترفا به ملكا على بلاد العرب إثر تدشينه، برعاية بريطانية، ثورته ضد الأتراك المعروفة باسم “الثورة العربية الكبرى” في يونيو 1916.
في مطلع السنة الهجرية الجديدة الموافقة للثلاثين من أكتوبر 1916 أرسل الشريف حسين رسولا إلى الضباط المسلمين العاملين ضمن البعثة الفرنسية الموجودة في الحجاز يدعوهم فيها إلى المجيء إلى قصره، فلما ذهبوا إلى القصر وجدوا وزراء حكومة الشريف ووجهاء الحجاز مجتمعين.
يحكي القنصل البريطاني في جدة، ويلسون، في رسالة بعثها إلى المندوب السامي في مصر، مكماهون، في 5 نوفمبر 1916 تفاصيل هذا الاجتماع الحاشد قائلا “قرأ شيخ الإسلام خطابا طويلا باللغة العربية الفصحى بلهجة سورية فلم يفهم الضباط الفرنسيون أي كلمة منه.. وبعد ذلك، صفق الجميع وهنأوا الشريف. وغادر الضباط الفرنسيون القصر ظنا منهم أنهم هنّأوا الشريف بالعام الهجري الجديد، دون أن يعلموا شيئا عما حدث إلا بعد ساعات قليلة حين وجدوا أن البلدة تتحدث عن أنهم هنأوا الشريف باسم الجمهورية الفرنسية على ملوكيته”!
فقد تبين أن الاجتماع الحاشد عُقد لمبايعة الشريف ملكا على العرب، وقال خلاله الحاضرون “إننا نعترف بجلالة سيدنا ومولانا الحسين بن علي ملكا علينا نحن العرب، وهو يحكم بيننا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام”.
وفور انتهاء الاجتماع أرسل نجل الشريف ووزير خارجيته عبد الله بن الحسين رسالة إلى السير مكماهون قائلا “ببالغ السرور، أُعلم سعادتكم أن الوجهاء والعلماء وجميع طبقات الشعب في اجتماع عُقد اليوم قد اعترفوا بالإجماع بالشريف الأكبر حسين بن علي ملكا للأمة العربية. ويصبح جلالته بموجب هذا القرار ملكا للبلاد العربية التي أُعجبت بكفاءته الدبلوماسية وإخلاصه التام لبلاده ورغبته الصادقة في نشر منافع التعليم والعدل في جميع أنحاء المناطق العربية، التي تحررت من ربقة عصابة الاتحاد والترقي”…
كما بادر عبد الله إلى نشر إشاعات في الحجاز بأن والده تسلّمَ برقيات تهنئة من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا تتضمن الاعتراف به ملكا للعرب. وأجبر كبار تجار جدة ووجهائها على إرسال برقيات تهنئة بصيغة موحدة إلى والده، وأصدر أوامره إلى دائرة البرق بعدم قبول أي برقيات تهنئة لم ترسل وفقا للصيغة المقررة.
رغم شدة احتياج بريطانيا للشريف حسين آنذاك فإنها لم تعترف به ملكا للعرب وحرصت على استمرار تمنيته بالوعود المستقبلية إلى أن استنفدت أغراضها منه، ومن ثم تعاملت معه لاحقا وفقا لمعطيات الواقع الجديدة.
وقد عبّر المندوب السامي مكماهون عن موقفه من تصرف الشريف في رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية قائلا “نظرا إلى مدى ما يدين به الشريف بوضعه الحاضر وحتى بوجوده لمساعدتنا وتأييدنا، فإننا نكون محقين في وقف أي اعتراف بعمله الحاضر الذي اتخذه بدون مشاورتنا، لكنْ من غير المرغوب أن تتسم علاقتنا معه بالتوتر الشديد في ظل الظروف الحالية.. ونظرا إلى محدودية بلاده واستنادا إلى معاهداتنا المعترفة باستقلال الزعماء العرب كابن سعود وغيره، فإن أقصى ما يمكننا عمله في الأحوال الحاضرة هو الاعتراف بالشريف حسين ملكا للحجاز”.
كما أوصى مكتب الاستخبارات البريطاني في القاهرة، المشهور باسم “المكتب العربي”، والذي تولى الإشراف على التخطيط والإعداد للثورة العربية الكبرى، بضرورة تقديم نوع من الاعتراف بمكانة الشريف، مع تأكيد أن خطوته بإعلان نفسه ملكا للعرب سابقة لأوانها.
ومن ثم سلمت بريطانيا وفرنسا وروسيا ردها الموحد والمكتوب عبر القنصل البريطاني في جدة في 10 ديسمبر 1916 إلى الشريف، وتضمن التالي “إن حكومة صاحب الجلالة وحكومتي فرنسا وروسيا، ولو أنها تعتبر عظمتكم وسوف تظل تعتبر عظمتكم رئيسا اسميا للشعوب العربية في ثورتها على سوء الحكم التركي.. لا تستطيع أن تعترف في الوقت الحاضر بتقلد عظمتكم لأي لقب سيادي يثير التفرقة بين العرب الآن ويخلّ بالتسوية السياسية النهائية لجزيرة العرب على أساس مرض… ولكي تكون تلك التسوية دائمة، يجب أن تقرر بموافقة عامة من الحكام العرب الآخرين.. ويجب أن تعقب النجاح العسكري ولا تسبقه”.
في النهاية، لم يتمكن الشريف حسين من توظيف بريطانيا وفرنسا لتحقيق أهدافه في تكوين دولة عربية كبرى يقبع على زعامتها، بل وظفته بريطانيا لمحاربة الدولة العثمانية وتفكيك وحدتها. وبعد أن أدى الدور المطلوب تخلصت منه بريطانيا ليعيش في المنفى..
وقد عبر عن هذه الحقيقة بدقة شديدة مدير الاستخبارات العسكرية البريطانية في القاهرة في فترة مبكرة من 1916 بقوله “إن هدف الشريف هو تأسيس خلافة لنفسه.. نشاطه يبدو مفيدا لنا لأنه يتماشى مع أهدافنا الآنية، وهي تفتيت الكتلة الإسلامية ودحر الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها.. إن العرب هم أقل استقرارا من الأتراك، وإذا عولج أمرهم بصورة صحيحة فإنهم يبقون في حالة من الفسيفساء السياسية، مجموعة دويلات صغيرة يغار بعضها من بعض، غير قادرة على التماسك. وإذا تمكنّا فقط من أن ندبر جعل هذا التغيير السياسي عنيفا فسنكون قد ألغينا خطر الإسلام بجعله منقسما على نفسه”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية (نجد والحجاز) ترجمة “نجدة فتحي صفوة، المجلدان الثاني والثالث، ط. دار الساقي.
التعليقات