أكثر مَن يتوهمون أن أجهزة الأمن والمخابرات تحرك كافة الأحداث حول العالم هم مَن لا يعرفون شيئا عن تاريخ الإخفاقات المريعة لتلك الأجهزة. هؤلاء الواهمون صار لهم حضور في المشهد العام مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية، وسهولة نشر الأفراد لتحليلاتهم عن الأحداث المتنوعة.
وتعيش تلك الفئة العجيبة في شرنقة فزاعة المخابرات، وتُقدّم تحليلات مهووسة تقبل أي احتمال وترى كل شيء سوى الحقيقة، وتتخيل أن أجهزة المخابرات سواء الأجنبية أو العربية تقف خلف كل الحوادث الكبرى والمفاجئة، فمبارك قتل السادات عام 1981 ليتولى الحكم بدلا منه، وأميركا ضربت نفسها في أحداث (سبتمبر/أيلول) لتبرير غزو أفغانستان والعراق، والجيش المصري -بالأخص منه جهاز المخابرات الحربية- دبّر ثورة (يناير/كانون الثاني) للإطاحة بمبارك كي يتولى الإخوان الحكم تمهيدا للانقلاب عليهم!!
أما حوادث استهداف مديريات أمن القاهرة والدقهلية وجنوب سيناء في مصر عقب الانقلاب فقد نفّذتها المخابرات الحربية ضد الشرطة، بينما حوادث استهداف مقرّي المخابرات الحربية في الإسماعيلية وأنشاص الرمل فقد نفّذها جهاز الشرطة ردًّا على استهداف المخابرات الحربية لمقارّه!!
بينما أحداث استهداف الكنائس مؤخرا في القاهرة والإسكندرية وطنطا فنظام السيسي هو مَن نفّذها لا فرع تنظيم الدولة في مصر، أما حادث الواحات الخطير فقد نفّذه الجيش ضد الشرطة أو ربما نفّذته مليشيات كنسية انتقاما من تفجير الشرطة للكنائس!!… إلى آخر تلك التحليلات العجيبة التي لا تدعمها معلومات أو قرائن، إنما تستند على الأوهام والخزعبلات.
وفي هذه التدوينة لن أناقش تلك الفرضيات الهزلية، إنما سأتناول مثالين فقط لأحداث كبرى فشلت أجهزة الاستخبارات في إحباطها رغم توافر معلومات مسبقة لديها حول تلك الأحداث، وهذا الفشل قد يعزوه البعض إلى ثغرات وخِلال بيروقراطية تعتري أداء تلك الأجهزة، ويعزوه آخرون في حقيقته إلى القدر الإلهي الذي يجريه الله على عباده. وهذا البُعد القدري يغفل عنه البعض ظنا منهم أن الدول وأجهزتها الأمنية آلهة تتحكم في مصير البشر ومجريات الأحداث، وفي هذا السياق يحضرني قول الجنرال الأميركي “بيتر دبليو شيارلي”: “لأن أميركا وضعت رجلا على القمر يظن البعض أن بإمكانها أن تفعل أي شيء، بل وأن تفعله بسرعة، وعندما تفشل في فعله بسبب عدم القدرة أو نقص الموارد أو أوجه الخلل البيروقراطي يظنون أن أميركا لم تفعله لأنها لا تريد فعله”.
أما الحادثة الأولى فتخص هجمات (سبتمبر/أيلول)، إذ يذكر “جورج تينت” رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (1997-2004 ) في مذكراته “في قلب العاصفة” أنه كان يعيش في دوامة عمل لا تنتهي، حتى إنه شبّه نفسه بمن يشاهد 8 برامج تلفزيونية في وقت واحد، وذكر أنه أحيانا كان لا يستطيع قراءة ولو الصفحة الأولى من التقارير الاطلاعية المقدمة إليه، وتناول في مذكراته بالتفصيل كيف أن السي آي إيه اشتبهت في اثنين من منفذي هجمات (سبتمبر/أيلول)، وهما “نواف الحازمي وخالد المحضار” منذ (يناير/كانون الثاني) عام 2000 إثر رصد اجتماعهما مع آخرين مشبوهين في شقة بالعاصمة الماليزية كوالالمبور.
كما رصدت الوكالة حصول “خالد المحضار” على تأشيرة دخول إلى أميركا، وأرسلت الوكالة تلك المعلومات إلى “مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي” ليتابع الشخص المذكور، ولكن سقطت تلك المعلومات من تقرير “الاستخبارات المركزي الرسمي” الذي تقدمه الوكالة إلى المكتب، ظنا من العاملين بالوكالة أن المعلومات بخصوص “المحضار” صارت في حوزة المكتب لسابقة إرسالها له. كما رصدت الوكالة عناصر جهادية أخرى حضرت الاجتماع المشار إليه، ولم يتم إدراجهم في قوائم لوائح المراقبة، ظنا من الضباط بالمركز الرئيس للوكالة أن ضباط مكتبها بماليزيا أضافوا الأسماء إلى اللوائح المراقبة، بينما ظن الضباط الميدانيون بماليزيا أن ضباط المركز الرئيس بالوكالة في “لانغلي” فعلوا ذلك.
كما أرسلت المخابرات التايلندية رسالة إلى قيادة المخابرات الأميركية بأن “نواف الحازمي” سافر من ماليزيا إلى تايلند ومنها إلى أميركا، وتم تضمين تلك المعلومة في نهاية تقرير روتيني تم تقديمه إلى قيادة الوكالة مؤشرا عليه بعبارة “للاطلاع” وليس “لاتخاذ اللازم”، فلم يتم التنبه إلى تلك المعلومة الخاصة بالحازمي ولم يُتخذ قرار بشأنها، وبالتالي دخل الحازمي إلى أميركا بسلاسة ولم يتعرض للمراقبة.
وعقب تصاعد التهديدات بقرب حدوث هجمات على المصالح الأميركية صيف 2001 أمر “تينت” بمراجعة كافة المعلومات والتقارير الخاصة بالعناصر الجهادية المشبوهة، فتم التنبه في 23 (أغسطس/آب) 2001 إلى سابقة دخول “نواف الحازمي” و”خالد المحضار” إلى أميركا، وأضيفا إلى قوائم المراقبة ولم يضافا إلى قوائم المنع من ركوب الطائرات، ولم يعثر عليهما إلى أن شاركا مع آخرين في تنفيذ أحداث (سبتمبر/أيلول).
أما الحادثة الثانية، فهى حادثة اغتيال الرئيس المصري “أنور السادات” عام 1981، إذ يروي لواء أمن الدولة “محمد إدريس” في شهادته حول الحادثة والتي نشرها بمجلة روز اليوسف، كيف أنه في صباح 6 (أكتوبر/تشرين الأول) عندما كان برتبة عقيد جاءه في مكتبه بحي “شبرا” أحد المرشدين المخترقين لتنظيم الجهاد، وأخبره قبل 3 ساعات من بدء العرض العسكري أن التنظيم سينفذ محاولة لاغتيال السادات في العرض، ومن ثم سارع “محمد إدريس” لإخبار تلك المعلومة المهمة إلى مفتش فرع أمن الدولة بالقاهرة بالإنابة اللواء “رضوان مطاوع” نظرا لأن مفتش الفرع اللواء “فتحي قتة” توجه مبكرا إلى حضور العرض.
وخشيَ “اللواء مطاوع” من أن تكون المعلومة غير صحيحة فيتحمل تبعات إخلاء المنصة من كبار المسؤولين، فحرص على عدم تخطي التسلسل الوظيفي، وحاول الاتصال بهاتف سيارة رئيسه اللواء “فتحي قتة” ولكن كان الأخير غادر السيارة مع مرافقيه، ولم يرد أحد على الجهاز، فحاول اللواء “مطاوع” الاتصال برئيس جهاز أمن الدولة آنذاك اللواء “عليوة زاهر” ورد عليه مدير مكتبه بأن اللواء “عليوة” مرهق للغاية ونائم، فأُحرج اللواء “مطاوع” من أن يطلب إيقاظه، ومن ثم أرسل خطابا سريا يتضمن المعلومة مع ضابط أمن دولة برتبة نقيب إلى مفتش الفرع بالقاهرة في المنصة، ولكن عناصر الحرس الجمهوري والشرطة العسكرية منعوا الضابط الصغير من دخول المنصة، وأبعدوه عنها نظرا للتعليمات المشددة بمنع أي شخص من الدخول للمنصة بعد حضور رئيس الجمهورية، ومن ثم وقعت العملية واغتيل السادات.
تلك النماذج مجرد عينة فقط من بين أمثلة كثيرة تدحض تأليه أجهزة الأمن والمخابرات، وتكشف زيف ادعاء وقوفها وراء جُلّ الأحداث الكبرى التي تدور في العالم، بل كثيرا ما لا تعرف أجهزة الاستخبارات شيئا عن تلك الحوادث سوى بعد وقوعها. أو تعرف عنها بعض المعلومات المسبقة دون أن تتمكن من إحباطها في الوقت المناسب. فالصواب أن يبني المرء تحليلاته على المعلومات والقرائن القوية مع استحضاره البعد القدري فيما يحدث حوله، دون أن يردد بسذاجة وبشكل تلقائي عقب وقوع أي حادث ضخم “إنه من فعل أجهزة الأمن والاستخبارات”.
التعليقات