لا مانع عندي من تناول أية شخصية تاريخية بالنقد الموضوعي المبني على التحقيق التاريخي بحيث يعتمد الشمولية ويجمع بين أطراف القضايا الواردة في المصادر المعتبرة عند الموالين والخصوم، ويأخذ في اعتباره الواقع التاريخي المُعاش ساعتها، والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وأيديولجيات الخصوم ومدى نزاهة تحركاتهم أو خستها وخطورتها، وحركة المجتمعات البشرية وتركيباتها العرقية والإثنية والفكرية.
هذا الطرح الغائب والذي إن فهمناه في تحقيق قضية كالفتنة الكبرى مثلاً دون انحياز عاطفي او طائفي لبلغنا فيها الحق بلوغ المرتشف شريعة البئر حين أوشك على الهلاك، ولوضعنا الحقائق في نصابها الصحيح بفهم طبائع ابطال تلكم الوقائع وظروفهم وتحركات اقرانهم وخصومهم والمحيطين بهم، إلى غير ذلك من أمور تؤدي بالضرورة للترجيح المنصف لبعض الروايات التاريخية والجمع بينها او اطراح بعضها بالكلية.
مع التنويه ان هذا الطرح إن تأملت هو خير من الطرح الطبطبائي الذي يبوس الرؤوس التي قطع بعضها في ذاك الصراع الأليم؛ من باب يادار ما دخلك شر وكلنا إخوات مع بعضينا وهكذا !!
ويقل التحفظ إذا كان الانتقاد وارجاع البصر هو في شخصية من المتاخرين؛ هي كالبشر تخطئ وتصيب فهي أقل وقاراً في قلوب المؤمنين من أولئك الأولين المتقدمين، كما لا توجد نصوص شرعية تخصهم بالمدح أو تحوطهم بالنزاهة، ولا مسيس طرف لهم برسول الله مثلاً كآل بيته الطاهرين أو أزواجه امهات المؤمنين أو أصحابه المكرمين عصبة الدين وسوار محمد وحماة الملة في الأعصر الأُوَلِ.
وفي سياق الحديث عن أحد أعظم القادة في تاريخ المسلمين -كصلاح الدين- لابد من الحرص والحذر، فالرجل هدم دولة كبرى سيطرت على شمال افريقيا بما فيها المغرب العربي وأجزاء من الشام، وبدلت فيها عقائد الناس وحدثت صدامات وصراعات طائفية خطيرة ومدمرة مكنت الصليبيين من احتلال بيت المقدس، وهذا الرجل تحديداً خاض صراعاً ضارياً مع الصليبيين والذين استفادوا بما رأوه وسرقوه من حضارتنا ليغلبوا بموجتهم الحضارية الجديدة بعد ذلك بأربعة قرون فقط وليعيدوا كتابة التاريخ وصياغة المفاهيم كيفما يروق لهم، ودون نزاهة تذكر اللهم إلا إنصاف الأقلين منهم للرجل رحمه الله.
ولكنني أتحدث هنا عن كيفية فهم التاريخ قبل أن نعيد النظر فيه ونمحصه ونحققه، ولا أتحدث عن التطاول والبذاء وقلة الذوق وانعدام الخلق، وفي هذه الاجواء تحديداً من محاولة استباحة بيضة الدين وإشاعة الاجتراء على الأولين، فإن محاولة التعقل هي في حقيقتها نزق وتخنث لا معنى له في هذا التوقيت وتلكم الأجواء؛ فصلاتنا تُمْنَعُ، وأزهرنا يُمتهن ويُهَان -حرره صلاح الدين-، ورموزنا تُسَبُ وتُسقط في اعين العوام وقد قدسها الزمان، وكفار أصليين لا مرية في كفرهم ولا ريب؛ يُؤَسْلمون هم من حيث نفي الكفر عنهم، أو نُكَفْرُ نحن بتكفيرهم؛ وهو في كتاب الله لا شبهة فيه، وبَيّنٌ في تكذيبهم لرسول الله بل لدينه بالكلية.
إن موقفنا ينبغي ان يكون موقف حماة الحصون حينئذ، لا يعرفون الا رمي النبال او سكب الزيت المغلي والقار على رؤوس الغزاة، لا موقف الجواسيس وأدلة العدو على الثغور، فالتطاول والتزيد والتحيز لا يقابلها إلا الذود والتعصب والمدافعة لا المناقشة ومحاولة طرح منهج علمي !!
وإن من أشر علائم الهدم في أية أمة وأي منهج ، أن يعود الآخرون فيه باللائمة والنقض على الأولين دون داعٍ أو حريجة أو روية، وأن تتعاقب الموجة بعد الموجة من هذه الموجات الظلامية، وكلما دخلت أمة لعنت أختها التي سبقتها، حتى ينهدم الدين ولا يبقى منه دارسٌ ولا طللُ، ولا تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها.
التعليقات