الواقع له الأولوية المطلقة عند العصرانيين، فالواقع أولًا، والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا. أي أن الواقع هو المعيار، والحكم عندهم. ولكن في دهاء عجيب، ومكر لم يسبق له مثيل، حاولوا أن ينسبوا تقديم الواقع على دلالة النص، والعمل بالمصلحة العصرية، إلى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. بل منهم من ادعى عدم انصياع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لبعض أوامر القرآن المنصوص عليها نصًا لا يحتمل التأويل، مثل إلغاءه سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، وعدم إقامته لحد السـرقة في عام الرمادة.
وكمثال يقول د. نصر أبو زيد في رسالته عن الإمام الشافعي: «وعدم “انصياع” عمر بن الخطاب للأوامر القرآنية ينفي نفيًا كاملًا صواب الاستشهاد لتكريس مفاهيم “العبودية” و”الانصياع” و”الطاعة” وعدم المخالفة الذي يفضي إلى الخروج عن حد الإيمان». ويقول عن مخالفه أنه: «لا يستطيع أن يخرج من هذا المأزق إلا بالتسليم بحق الاجتهاد مع متغيرات الزمان والمكان، وبكل ما يترتب على هذا التسليم من أن “سلطة النصوص” سلطة مضفاة وليست ذاتية».
والحقيقة أن اعتبار ما فعله الفاروق عمر مأزقًا هو حقيقة الدجل الإعلامي، فمن يقول ذلك يريد أن يوهم السامع والقارئ أن الفاروق لم يكن منصاعًا للأوامر القرآنية، وأن هذه حقيقة لا تفكر فيها ولا تناقش، ولكن فكر فيما وراء ذلك وهو التسليم بأن هذا يمثل مأزقًا خطيرًا.
أما عن تفسير مواقفه المذكورة، وكونها كانت بإزاء نصوص لا تحتمل التأويل، فأود أن أسجل على الدكتور نصر أبو زيد اعترافه هذا بأن هناك نصوصًا لا تحتمل التأويل وأن الحدود كحد السرقة من تلك النصوص؛ لأن هذا الاعتراف يهدم نظريته التأويلية كلها رأسًا على عقب، تلك النظرية القائمة على الفصل بين النص والفهم البشري له.
أما الجواب على مواقف الفاروق يكمن في تصور الحكم الذي تدل عليه الآيات، وهو ما تحاشى الدكتور ذكره، كما يكمن في فهم السياق والمقام في كل موقف وهو الأمر الذي أهدره الدكتور نصر أبو زيد، والعجيب أنه يريد أن يوهمنا أن خصومه الإسلاميين هم الذين يهدرون السياق. إذن معرفة تلك المواقف على حقيقتها كاف في تبديد الوهم الذي أراد أن يصدره لنا الدكتور وأشباهه من العلمانيين والعصرانيين.
أولاً: سهم المؤلفة قلوبهم
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 60) و”إنما” التي صدرت بها الآية أداة حصر، فلا يجوز صرف الزكاة لغير تلك المصارف الثمانية المنصوص عليها في الآية.
ولكن ثم سؤال لعل في الإجابة عليه يتبين لنا مدى الخداع وتزييف الحقائق الذي يمارسه العصرانيون وهو: أيجب استيعاب هذه الأصناف الثمانية أم يجوز دفعها إلى بعضها؟ إن جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة ذهبوا إلى أنه لا يجب استيعاب هذه الأصناف عند تقسيم أموال الزكاة، بل يجوز الدفع إلى واحد منها وإعطاؤه الصدقة مع وجود الباقين. معنى هذا أن على الإمام أن يتوخى المصلحة في إخراج الزكاة، ويتخير من المصارف الشرعية ما يكون أسد للحاجة وأصلح في وقته، بشرط ألا يخرج عن تلك المصارف الثمانية.
إذن عمر الفاروق الراشد كان فقيهًا عندما لم يعط هذا السهم إلى من كانوا يعطونه وقال: «هو شيء كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيكموه ليتألفكم، والآن قد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم»، فهو لم يسقط هذا السهم مطلقًا، وإنما منعهم لزوال الوصف الموجب لإعطائهم، وهذا من قبيل تحقيق المناط أو الاجتهاد في توافر شروط تطبيق النص، وليس من قبيل إبطال حكم النص، وهذا واضح لمن كان له عقل.
ثانيا: حد السرقة
«السرقة الموجبة للحد في الشـرع هي أخذ المال على وجه الاستخفاء والاستتار مع تمام الشروط»، ومن أهم تلك الشـروط: أن يكون السارق مكلفًا، وأن يبلغ المسـروق نصاب السرقة، وأن يكون المسروق محرزًا، أي في موضع الحصين، وأن تنتفي الشبهات، والشبهة في اللغة تعني الالتباس، ويراد بها في الحدود: ما كان من نقص في درجة الجناية يجعلها غير مكافئة لمستوى العقوبة المقدرة، فيعدل عندئذ عن الحد إلى عقاب دون ذلك، وهو التعزير.
وقد حرص الإسلام على التماس الشبهات لدرء الحدود عن العباد ما أمكن، وفلسفة الإسلام في ذلك أن الخطأ في عدم العقوبة خير من العقوبة في ظلم.
ومن أهم تلك الحالات التي اتفق الفقهاء من جميع المذاهب على اعتبار الشبهة فيها السرقة من الجوع، فلا تقطع يد السارق الجائع لشبهة الاضطرار المبيح لتناول المحرمات كما قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ ۙ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (المائدة: 3).
وفي عام الرمادة أصيب المسلمون بالجدب والقحط حتى أخذتهم الضائقة وشدة الجوع فوقع بعضهم في السرقة، ولم يقم عليهم الفاروق حد السرقة، وكان يقول: «لا قطع في عام المجاعة»، وهو القائل: «لأن أخطئ في الحدود بالشبهات أحب إلى من أن أقيمها بالشبهات».
فلما ثبتت الشبهة في عام المجاعة انتفى شرط من شروط الحد، فلو أقام الحد لم يكن منصاعًا لأمر الرسول، ولهذا انصاع للأمر ودرء بتلك الشبهة الحد عن المسلمين.
والأمر لا يتوقف عند حد السرقة من الجوع فلو سرق رجل ما يبلغ النصاب من بيت مال المسلمين، أو من الغنيمة قبل أن تقسم، فلا حد عليه؛ لأنه واحد من المسلمين وله في بيت المال، أو في الغنيمة حق، وبهذا حكم علي -رضي الله عنه-، وكان يقول: «ليس على من سرق من بيت المال قطع». فهل عطل علي حد السرقة أيضًا؟! فأين تلك الأوامر القرآنية التي رغب الفاروق عنها ورفض أن ينصاع لها؟! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.
وحقيقة أمر أولئك أنهم يمارسون دجلًا إعلاميًا، يلبسون به الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون. ولكن يمكرون ويمكر الله، ومن مكر الله بهم أن يجعل فساد أقوالهم بألسنتهم؛ فلا هم يثقون في دليلهم ولا هم يسلمون له زمامهم، فنصر يقول في أول صفحة في مقدمة نفس الكتاب: «والتساؤل الثاني الذي يطرح نفسه: هل الأئمة الأربعة والخلفاء الأربعة ومن سواهم من الأئمة والخلفاء إلا بشرًا مارسوا حقهم في الاجتهاد والتفكير وتركوا لنا تراثًا يستحق منا أن نفكر فيه ويجتهد كما فكروا واجتهدوا؟!».
إذن عمر بن الخطاب الخليفة الثاني – رضي الله عن الخلفاء الراشدين والصحابة أجمعين – بشر يخطئ ويصيب، فكيف تكون وقائع أعيان محتملة – ولا أقول منهجًا – لأحدهم حاكمة على عشرات النصوص من الكتاب والسنة.
وهذا رد مجمل فَصْل في تلك المسألة: أن كلام البشر غير المعصومين -ولا معصوم إلا النبي- يوزن بميزان القرآن والسنة. ولا يتعارض هذا مع القول بلزوم فهم السلف؛ لأننا نعني بفهم السلف: ما أجمعوا على فهمه، وهذا -كما هو معلوم- لا يخرج عن الكتاب والسنة، وإنما يتعين قطعًا الفهم المجمع عليه، وتنتفي سائر أوجه الاحتمال الأخرى التي قد ترد أحيانًا على بعض الأدلة.
التعليقات