تعيش الأمة واقعا صعبا ،تواجه فيه داخليا وخارجيا خصوما شرسين ،بينما كثير من أبنائها مازالوا في حالة غفوة ولم ينهضوا بعد للقيام بالأدوار المنوطة بهم ، وفي ظل هذه المعادلة يرى البعض منا قوة الخصوم وينزعج من عيوب المجتمعات المسلمة وآفات الحركات الإسلامية ،فينكسر تحت ضغط الأحداث ،ويظن أن الحل يكمن في التعايش مع الأنظمة الحاكمة الديكتاتورية ،وتجنب الاشتباك معها ماديا وفكريا وشرعيا ، فيركز في خطابه على الممكن والمتاح ، ويغيب عنه طرح تصورات لكيفية تحصيل غير الممكن ، بينما حيز الممكن والمتاح تتحكم فيه الأنظمة، وبالتالي من يرض بأن يعيش في إطاره فسيعيش في الحيز المسموح به أمنيا دون أن يمتلك أو يسمح له بالسعي لامتلاك أدوات التغيير التي تمكنه من الخروج الحقيقي من حيز الحصار والتحجيم ، فعندما يسمح مثلا نظام مبارك بهامش من الحرية السياسية يفوز الإخوان ب٨٨ مقعد في انتخابات مجلس النواب عام ٢٠٠٥ ، ثم عندما يقرر النظام تضييق الهامش يسقط جميع مرشحي الإخوان عام ٢٠١٠ ، وعندما يسمح النظام بزيادة هامش الحرية الدعوية تظهر الفضائيات الدينية ثم عندما يقرر تضييقها تغلق هذه الفضائيات .
ومن أبرز نماذج الإسلاميين الذين تبنوا العمل في إطارالممكن والمتاح الشيخ سلمان العودة ،وذلك إثر تجربة مريرة له مع النظام السعودي ،ففي مطلع التسعينات صار الشيخ سلمان أحد أبرز المتماسين مع المشهد السياسي بالجزيرة العربية ، وتصدر قائمة المطالبين بالإصلاح ، ولم يردعه اعتقاله عن إصدار رسائل وخطابات يستنهض فيها المجمتع السعودي للمطالبة بحقوقه ، فأصدر شريطه الشهير ( رسالة من وراء القضبان) فضلا عن إصدارات سابقة جريئة بالنسبة للمشهد الديني والسياسي السائد آنذاك كشريطه الصوتي ( رسالة إلى أخي رجل الأمن) .
ولكن طال اعتقال الشيخ فخرج بعد خمس سنوات تقريبا ، وقد آلمته التجربة ، وأزعجه غياب الجماهير عن دعم الرموز الإصلاحية ،وتركها إياهم يواجهون بمفردهم عاقبة معارضتهم للأنظمة ، فبدأ الشيخ سلمان يركز على النواحي الأسرية والاجتماعية بعيدا عن الاشتباك مع القضايا الساخنة التي تزعج النظام الحاكم ،ثم دعم الشيخ سلمان لاحقا (التتويب الجماعي للحركات الإسلامية) تحت مظلة ( المراجعات الفكرية) التي وظفت مقاصد الشريعة لشرعنة تحجيم العمل في إطار المسموح به من النظام ، ثم وصل الحال بالشيخ سلمان إلى الذهاب تحت رعاية سيف الإسلام القذافي إلى سجن أبوسليم الليبي -والذي شهد مقتل ١٦٠٠ مسجون سياسي إسلامي عام ١٩٩٦ فيما عرف بمجزرة أبوسليم- لإعطاء محاضرات للمسجونين الإسلاميين يحثهم فيها على الإلتزام بالمراجعات الفكرية تجاه نظام معمر القذافي ، كما زار الشيخ سلمان العودة عام ٢٠٠٩ تونس ، وكتب مقاله الشهير ” الإسلام والحركات” مضفيا فيه صورة جمالية على نظام” زين العابدين بن علي” وممارساته ،إذ قال (الحجاب شائع جداً دون اعتراض، ومظاهر التديّن قائمة، والمساجد تزدحم بروّادها …وزرت إذاعة مخصصة للقرآن؛ تُسمع المؤمنين آيات الكتاب المنزل بأصوات عذبة ندية… بل وسمعت لغة الخطاب السياسي؛ فرأيتها تتكئ الآن على أبعاد عروبية وإسلامية، وهي في الوقت ذاته ترفض العنف والتطرف والغلو، وهذا معنى صحيح، ومبدأ مشترك لا نختلف عليه) …ثم ختم المقال قائلا (من المجتمعات والأنظمة ما يضيق ذرعاً بحركة إسلامية تزاحمه في سلطته، أو تعتمد معارضة صرفة قد لا يحتملها، ولكن قد لا يضيق ذرعاً بالإسلام ذاته) في فصل عجيب بين موقف الحكومات- وبالأخص حكومة بن علي – من الإسلام والإسلاميين ، وبالطبع لو كان حال نظام “بن علي” بتلك الحالة الرومانسية لما ثار ضده الشعب التونسي بعدها بأقل من سنتين.
ولا أميل في تحليل موقف الشيخ العودة لما ذهب إليه المنظر الجهادي أبوبكر ناجي في كتابه ” الخونة أخس صفقة في تاريخ الحركة الإسلامية” من وصفه له بالخيانة استنادا إلى توثيقه للكثير من مواقفه آنذاك، بل أميل لكون العودة شخصية ذكية تدرك قسوة الأعداء وقوتهم بالتوازي مع ترهل الأمة ، ولكنه بدلا من أن يتبنى خيار تفعيل الأمة وايقاظها فضل العمل تحت مظلة الأنظمة تقليلا للخسائر حسب ظنه.
لم ينفرد الشيخ سلمان بذلك الطرح بل شاركه فيه الشيخ الفقيه محمد الددو الشنقيطي ، فقبيل ثورات الربيع بسنوات قليلة ، أعطى محاضرة عن “فقه الواقع” تحدث فيها عن أن (المرء لابد أن يتعايش مع واقعه ولا يصطدم به ، فمن يقف ضد الأمواج تجرفه في طريقها ، ومن يريد أن يمر من باب منخفض لابد أن يحني رأسه).
وبالطبع فإن كلامهما عن الاستفادة من الممكن صحيح ، بينما خوفهما المبالغ فيه على (الممكن) من التضييع بطلب (غير الممكن) هو عقدة المشكلة، وعدم وضعهما تصورا لتحويل غير الممكن إلى ممكن يمثل خللا جوهريا ، بينما التوازن في النظر والعمل والمغامرة هو مفتاح الحل .
وقد عالجت رسالة ( الاستضعاف وتغيير الأهداف) تلكم الأطروحة التي تبناها الشيخن العودة والددو وغيرهما من أهل العلم معالجة شرعية وأصولية راقية هنا:
https://gabhasalafia.com/archives/2651#.WNbyTa9HaK1
أما واقعيا فسرعان ما اندلعت أحداث الربيع العربي ، فدعم العودة والدودو تلك الثورات ،بل وكان قادة الجماعة الإسلامية الليبية الذين سبق أن قدم لهم العودة مراجعاتهم الفكرية الصادرة عن مكتبة مدبولي ممن قادوا الثورة وساهموا في اسقاط القذافي ، ولكنهم سابقا تحت الضغوط بحثوا عن مخرج سرعان ما تنكروا له عند أول فرصة . فالشاهد أن تدوينهم للمراجعات قد يقبل كخيار ذاتي لأناس مكرهين في سجون طاغية مجنون ، وليس كخيار يصدره د. العودة للأمة، فيشرعن به الاستبداد ، وتشوه به فكرة المدافعة .
فهل كان خطاب الشيخين العودة والدودو قبل الثورات خطابا صائبا؟!! أم كان خطابا منطلقا من أرضية انكسار يستشعر الضعف أمام الخصوم ولا يقدر على استشراف المستقبل القريب استشرافا صائبا ؟! ، هل لو تبنت الأمة هذا الخطاب المتعايش مع الأنظمة الطاغوتية كان للثورات أن تندلع؟! أم لتم تركيع الأمة لطواغيتها إلى أجل غير مسمى؟! ، هل الدور المناط بأهل العلم والفكر يتمثل في تقديم تصورات لكيفية توظيف الممكن في الوصول لغير الممكن من أجل حيازة مكتسبات حقيقية تساهم في نهضة الأمة ؟! أم الدور المناط بهم هو التنظير للحالة الراهنة فقط والعيش في أسر معطياتها؟
بالطبع الإجابات الصائبة على الأسئلة السابقة معروفة ،لذا عقب اندلاع الثورات وسقوط رؤوس الاستبداد صار الجميع ثوريين ، وحضر مصطلح الثورة في أطروحات الإصلاحيين وكتبهم ، ولكن عندما حدثت الثورات المضادة ،وبدأت حملات الانتقام من الإسلاميين وطال أمدها ، عادت خطابات ما قبل الثورات للواجهة من جديد ، عبر نوافذ مختلفة ، فطرحها سياسيون و مفكرون و شيوخ و صحفيون وناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي ، وقد استوقفني مؤخرا مقال للاستاذ ياسر نجم استجلب تعليقات كثيرة تنطلق من أرضية أن نظام السيسي تمكن واستقر،ولابد من تقديم تنازلات له مقابل الخروج من الصراع معه بأقل خسائر ممكنة ، وهو ما يتطلب نقاشا موضوعيا لهذا الطرح ،أسعى لتقديمه في المقال القادم إن شاء الله تجنبا للإطالة الكبيرة في هذا المقال.
التعليقات