الملاحظة الأولى:
إن هذا القول بتقديم العقل على النقل لا يختص بطائفة العصرانين، بل يتعداه ليشمل كل ما يسمى بالتيار العقلاني أو المدرسة العقلانية ومن المعلوم أن من رموز المدرسة العقلانية في العصر الحديث من تصدى إلى كثير من العصرانين أو العلمانين وفند أصولهم. أي أن هذه الدعوى تشكل نقطة التقاء بين الطائفتين فكل منها يقول بأنه إذا تعارض النقل مع العقل وجب تقديم العقل، ويكون مصير النقل التأويل ليتفق مع العقل، ومنهم من جعل طريقًا ثانيًا للنقل غير التأويل وهو التفويض أي تفويض العلم بمعناه إلى الله.
إلا ان هذا الالتقاء لا يعني التطابق الكامل بين الطائفتين في النظرة إلى العقل والمجال الذي أبيح له العمل فيه. ولندع الكلام لفهمي هويدي في كتابه “القرآن والسلطان”، وهو يصف السبب في الهجوم على العقل، بقوله: “فتلك موجة تنشط بين الحين والآخر، تحاول أن تصد -إذا أحسنت النية- تيارات الفكر المادي القادمة من وراء حدودنا، وهي موجة خطرة في الحقيقة، لأنها تخلط بين استخدام العقل وعبادته، فضلًا عن أنها تربط بين الدعوة إلى استخدام العقل وفلسفة المذهب العقلي أو التجريبي، التي تنكر ما لا يخضع للتجربة الحسية، الأمر الذي يرفض في النهاية الاعتراف بكل ما هو غيبي”.
إذن فهمي هويدي يفرق بين الغيبيات وبين أمور الدنيا فلا يخضع الأولى للعقل ويخضع الثانية للعقل. وتأكيدًا لهذه التفرقة يقول: “لكن هناك تفرقة منطقية ومفهومة بين أمور العقيدة الثابتة دائمًا، وأمور الدنيا المتغيرة دائمًا، بين الدائرة الغيبية التي يعد التسليم بها من مستلزمات الإيمان، والدائرة السببية التي يعد استخدام العقل فيها من مستلزمات الحياة التي لا تثبت على حال”.
فإذا أردنا أن نحدد بدقة نقطة الالتقاء الفعلية بين الطائفتين سنجد أنها إطلاق حرية العقل في مجال الدنيا أو بتعبير أدق في الفقه (أحكام الشرع العملية) لا في العقيدة (الأحكام العلمية). يقول فهمي هويدي: «وحتى تتاح حرية الحركة على أوسع نطاق للعقل المسلم، فإن القرآن الكريم – مثلًا – لا يحتوي على تعريف واحد للأحكام التفصيلية التي وردت في نصوصه، فالسارق والزاني والقتل عمدًا والقتل خطأ والدين والربا، كل هذه وغيرها وردت ألفاظًا غير مشفوعة في الكتاب بتعريف معين، وقد طبقها من اجتهد في الفقه الإسلامي حسبما رأوا من ظروف حياتهم، وإغفال التعريف في الأحكام الدنيوية مقصود من الله سبحانه، بعكس الحال في أمور العقيدة، التي لا سبيل إلى تغييرها». ثم يستدل على ذلك بنفس استدلالات الطائفة الأخرى، ومن ذلك فعل عمر بن الخطاب في سهم المؤلفة قلوبهم، وحد السرقة عام المجاعة، وتقسيم أراضي سواد العراق وأراضي مصر والشام. وهذا ما يجعلنا نضعهما في خندق واحد في بحثنا المتخصص في أصول الفقه، وإن فُرِّق بينهما في علم العقيدة.
الملاحظة الثانية:
من الأهمية بمكان تحديد المفاهيم والمصطلحات ليتحرر موضع النزاع على وجه الدقة، فإن العقل الذي ينادي هؤلاء بتقديمه على النقل ليس من باب المعقول الصـريح الذي يشترك فيه جميع العقلاء المقابل للسفه والجنون، وإنما المقصود بالعقل هنا النشاط الذهني الذي ينبني على الاستنتاجات التي هي محل خلاف بين العقلاء، وأي محاولة للخلط بين العقل بالمعنى الأول والعقل بالمعنى الثاني هي تلبيس واضح وخداع ماكر يقدح في طلب فاعله للحق.
أما النقل فيشمل القرآن والسنة وإجماع الصحابة الذي يستند إليهما أو لأحدهما، ولا يمتد بحال إلى اجتهادات الأئمة التي هي من قبيل الاستدلالات بالمنقول. فتلك الاجتهادات وإن كانت تدخل ضمن المعنى اللغوي للنقل باعتبارها منقولة إلينا عن أسلافنا ولكنها لا تدخل ضمن المعنى الاصطلاحي للنقل وهو المقصود بالبحث في هذه المسألة.
ثانيًا: بعد فهم المقصود الحقيقي من النقل -القرآن والسنة والإجماع- وكذا العقل-أراء الرجال المرتبطة بمستوى معرفتهم وفهمهم- وانكشاف زيف الألفاظ البراقة مثل الحرية والتقدم والمدنية نأتي لتحرير موضع النزاع الحقيقي وهو لمن تكون السيادة والسيطرة -بحسب تعبيرهم – للنقل أم للعقل، للشرع أم لأراء الرجال، لله أم لقيصر؟!
فإن قال القائل: ولكن أليس العقل هو الأداة التي يفهم بها النص؟ أقول: بلى.. وهل يخالف أحد في أن العقل هو مناط التكليف وأن الشرع لا يخاطب المجانين؟ العقل بهذا المعنى ليس هو موضع النزاع، إن حقيقة النزاع حول ما يصدر عن العقل من أراء، هل تكون لهذه الآراء السيادة والسيطرة على المفهوم قطعًا أو ظنًا راجحًا من أدلة الكتاب والسنة؟ أو بعبارة أخرى هل يقدم المعقول غير الصريح على نصوص -بالمعنى الاصطلاحي- وظواهر أدلة الشرع المنقول؟!
ولقد اتفق الأصوليون – ومنهم الذين يقولون بتقديم العقل – على أن الحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، كما انعقد إجماعهم، بل إجماع المسلمين أجمعين على أن العقل ليس بشارع؛ لأنه لا حكم إلا لله تعالى، حتى هؤلاء المعتزلة الذين جعلوا للعقل دورًا في تقرير بعض الأحكام قد اتفقوا على أن العقل كاشف عن الحكم الشرعي وليس بمنشئ له.
قال الإمام الشاطبى: “الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنها تستعمل مركبة على الأدلة السمعية، أو معينة في طريقها، أو محققة لمناطها أو ما شابه ذلك، لا مستقلة بالدلالة؛ لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع”.
ولذلك فإن من تلبيسات العصرانيين وعلى رأسهم العلمانيين أن يتخذوا من هذا النزاع القديم سندًا لموقفهم المعاصر الذي يعطي لعقول البشر الحق في تشريع ما يناسبها ويناسب عصرها، وأن التشريع المنزل المحكم المجمع على دلالته إنما كان يناسب الزمان الذي نزل فيه ولابد من إعطاء العقل الحرية ليكمل الطريق. وكما قلنا أن فصل الدين عن الدولة الذي ينادي به العلمانيون بلا خجل يتأسس على السيادة المطلقة للعقل أو الإنسان أو الأمة، فالمضمون واحد وإن تعددت العبارات الدالة عليه.
القائل: إذن السيادة على هذا النحو لم تكن موضع نزاع في الفكر الإسلامي؟ أقول: أبدًا لم تكن ولن تكون.. إن الذي يقطع به كل مسلم أن أحدًا من أهل الإسلام لم يجترئ على هذه المقالة في تاريخ الإسلام، وإن ما أثبت في هذه القضية من تفرد الشرع بالسيادة لم ينازع فيه حتى كبار الحقوقيين من غير المتخصصين في الدراسات الشرعية، لأنه كما سبق موضع إجماع الأمة قاطبة.
يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه “فقه الخلافة وتطورها”: “روح التشريع الإسلامي تفترض أن السيادة بمعنى السلطة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشـر، فكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله، فهو وحده صاحب السيادة العليا ومالك الملك، وإرادته هي شريعتنا التي لها السيادة في المجتمع، ومصدرها والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن وسنة رسوله المعصوم الملهم، ثم إجماع الأمة”.
وللحديث بقية بإذن الله.
التعليقات