رد على مقال ” العلمانية في زمن السيسي ” للدكتور مراد وهبة .
ما مغزى عنوان هذا المقال ؟
مغزاه أنك ملزم بتحديد موقفك من الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية و اتخاذها المصدر الرئيسي للتشريع في مصر ، أي السلطة التشريعية العليا الحاكمة على كل القوانين المنظمة لشؤون الدولة ، هل ستنحاز إلى صف الإسلاميين ( و لم نقل المسلمين حتى لا يفهم تكفير غيرهم لعموم الجهل بين عامة الناس ) المنادين بتطبيق الشريعة الإسلامية ، الذين استردوا وعيهم بحقيقة الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان من عبودية الإنسان ، الساعين لإعادة دولة الإسلام ، لتكون كلمة الله هي العليا ، كل كلمة الله : أخبار و أحكام ، شعائر و شرائع ، كما قال تعالى : ( و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا ) أي صدقا في الأخبار عدلا في الأحكام ؟ أم ستنحاز إلى صف العلمانيين الذين يقصرون الدين على الشعائر دون الشرائع و يحصرونه في العلاقة بين العبد و ربه داخل المسجد ، أما العلاقة بين الناس فينظمها الناس فيما بينهم و لا علاقة للدين بها ، فالدين مقدس و لا يمكن الهبوط به إلى صراعات السياسة ، و من ثم لا سياسة في الدين ، و لا دين في السياسة ، و لا يمكن أن تطبق أحكام و تشريعات القرون الوسطى في القرن الحادي و العشرين …. إلى آخر تلك الجدليات و الفلسفات التي لا تخرج عن أن تكون إيمانا ببعض الكتاب و كفرا بالبعض الآخر ، قال تعالى : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون ) فالقرآن جاء بأحكام الزواج و الطلاق و الميراث كما جاء بالأمر بالحجاب ، فلماذا نأخذ هذا و نترك هذه ، و لماذا نأخذ بتحريم الميتة و نترك تحريم الربا ، و لماذا نأخذ تحريم السرقة و نترك الحد المقرر فيها ؟ و لماذا …و لماذا … الخ ، فهل من مجيب ؟!
ألسنا مأمورين أن نأخذ بجميع عرى الإسلام شعائره و شرائعه ؛ كما قال تعالى : ( ادخلوا في السلم كافة ) السلم أي الإسلام ؟!
هل تؤمن أن هذا الكتاب نزل ليحكم ، و أن ما سواه أهواء مردية ، قال تعالى : ( و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي و لا واق ) !!
هل ستتخذ الله حكما ، و تجعل الكتاب المفصل و السنة الشارحة مرجعا للتشريع و سلطة عليا مطلقة ، قال تعالى : ( أفغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) ؟!
هل ستنخدع بفرية العلمانيين : أن الحكم بالشريعة حكم ثيوقراطي يحكم فيه الفقهاء باسم الله كما كان يفعل رجال الكنيسة في العصور الوسطى المظلمة ( و يقولون هو من عند الله و ما هو من عند الله و يفترون على الله الكذب و هم يعلمون ) ؟! كيف و قد شن القرآن الحرب عليهم و على أتباعهم ، قال تعالى : ( اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ) أربابا ؟! نعم أربابا .. لأن التشريع من أخص خصائص الربوبية ، فمن اعطى حق التشريع لأحد مع الله فقد جعله ربا و العياذ بالله .
و لا فرق بين ان يكون المشرع حبرا أي من رجال الدين ، أو ان يكون من رجال القانون الوضعي ؟! هل تعلم أن الإسلام جاء ليحرر الناس من عبودية العباد الذين يتسلطون على رقاب البشر بقوانين وضعتها طبقة مترفة قهرت العامة بأموالهم و سلطانهم ، و جعلوا تلك القوانين مقدسات يجرم الخارج عنها .. و يعاقب بشتى العقوبات من لم يخضع لها ، و بالطبع لا يخالفها واضعو تلك القوانين المشرعون لها ؛ لأنها تتقلب و تتبدل بحسب أهوائهم ، كما في المثل الأمريكي : (( لمستر فورد [ صاحب شركة السيارات الشهيرة ] لا تخرق القانون ، لأن القانون وضع من أجله )) ؟!
هل تتذكر كيف عاشت مصر في ظل القضاء الشرعي منذ الفتح الإسلامي لمصر و إلى أن قهر الاحتلال الغربي شعبها و أنشا محاكمه التي انتزعت الاختصاصات تدريجيا من محاكم القضاء الشرعي لتحصره في مسائل الزواج و الطلاق و الميراث أو ما يسمى بالأحوال الشخصية ، ليجهز عليها نهائيا في عهد الطاغية عبد الناصر الذي ألغى القضاء الشرعي و ضم اختصاص الأحوال الشخصية إلى المحاكم العادية ؟! و منذ ذلك الحين و الصراع محتدم على هوية مصر : هل تظل إسلامية أم تكون علمانية ؟!
و على الرغم من أن العلمانية غلبت بسلاحها و استطاعت أن تنحي الشريعة عن حكم البلاد إلا أنها لم تستطع أن تغلب الناس على إيمانهم بأن الإسلام عقيدة و شريعة ، فظلت المساجد ترج بالدعاء إلى الله : أن يبرم لهذه البلدة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته و يذل فيه أهل معصيته و يحكم فيه بالقرآن !
و لما كان السلاح وحده لا يكف عمد إعلامهم إلى السحر الذي يقلب حقائق الأشياء فيجعل الباطل حقا و الحق باطلا ! ” و إن من البيان لسحرا ” كما حذر الرسول صلى الله عليه و سلم ، فأخفوا حقيقة الصراع و حرفوا المفاهيم و تلاعبوا بالألفاظ ، فتخففوا من الجهر بعلمانيتهم ، و تستروا بألفاظ براقة خداعة كالدولة المدنية الحديثة ، و دولة القانون و المؤسسات …الخ .
و كانت المفاجأة حين ثار الشعب على جلاديه ، و كانت المفاجأة الأكبر حين اختار الشعب في أغلبيته الإسلام ، و أعلنها يوم تنصيب الرئيس المنتخب : الشعب يريد تطبيق شرع الله ، إلا أن الأقلية المدعومة بالسلاح انقلبت على الشرعية المنحازة إلى الشريعة .. و هنا يقف التاريخ ليسجل بمداد من دم الشهداء مشهدا مريعا كشرت فيه العلمانية في مصر عن أنيابها و كفرت بديمقراطيتها التي أوصلت الإسلاميين إلى سدة الحكم لتبدأ فرصة جديدة لتأسيس العلمانية في مصر .
و المتأمل في الفجور الإعلامي على مدى العامين الماضيين يشهد تصاعدا تدريجيا في التأسيس للعلمانية حتى بلغ الأمر مداه بتعيين وزير للثقافة يجهر بأن مصر علمانية ، مما دعى د. مراد وهبة ليؤرخ بمقاله (( العلمانية في زمن السيسي )) و المنشور في جريدة الأهرام الصادرة يوم الثلاثاء 13/ 10 /2015 لعصر علماني جديد في مصر؛ يصرح فيه بأن المعركة بين العلمانية و الأصولية الإسلامية ، و يعرض لجهوده في تأسيس العلمانية في مصر في العقود الثلاثة الماضية ، و يختم مقاله بأن التحدي الحضاري لمصر و البلدان الإسلامية في تبني العلمانية الغربية ! و يمكن الوقوف على ملامح هذا العصر العلماني – كما يصوره المقال – من خلال النقاط التالية :
أولا : نشر المقال في جريدة رسمية معبرة عن النظام الحاكم بمكانة الأهرام ، له دلالته في التعبير عن دعم السلطة للتيار العلماني و الدفع بالعلمانية لتكون مكونا أساسيا في النسيج الفكري العام للبلاد . حتى لو اقترن ذلك بالطعن في بعض المقدسات كما حدث في مقال
” هاني عمارة ” في نفس الجريدة و قبله بأيام مقاله بعنوان ” العلمانية سيئة السمعة ” حيث ختم المقال بتذكيرنا بأن المسلمين هم الأمة الوحيدة التي تحتفل بالذبح و الدماء ، إشارة إلى عيد الأضحى !!
ثانيا : المقال اكتسب أهمية خاصة من شخصية كاتبه ، فهو علم من أعلام الثقافة المحتفى بهم في الدولة المصرية منذ عقود ، و قد دأبت دور الثقافة في نشر كتبه و مقالاته ، و كان كتابه (( العلمانية و الأصولية )) أول كتاب تصدره (( دار الثقافة )) في سلسلة (( من قضايا العصر )) 1995 م ، حتى عدوه أحد أبرز فلاسفة العصر .
ثالثا : أظهر الارتباط الوثيق بين الصراع المنهجي الديني و المشهد السياسي ، و ذلك من خلال العنوان ، حيث عبر عن الأول بلفظ ( العلمانية المنهج المقابل للأصولية الإسلامية ) و عن الثاني بلفظ ( السيسي ) الذي يمثل رأس السلطة في النظام الحاكم ، و هذا الارتباط يدحض محاولات الفصل بين البعد السياسي و البعد الديني ، فالأول يعد مظهرا من مظاهر الثاني ، فليس الصراع سياسيا بحتا كما يتوهم البعض .
رابعا : أعطى المقال القيمة الحقيقية لاختيار ” حلمي النمنم ” كوزير ثقافة أعلن مصر علمانية ، و ذلك عندما أرخ الكاتب لعصر علماني أزاح الاصولية الإسلامية المطالبة بالشريعة و جاء على أنقاض الإسلام السياسي ، فهو تعبير واقعي عن الصراع بين منهجين متقابلين لايلتقيان .
خامسا : صرح المقال بما لا يدع مجالا للشك أو التأويل بميدان المعركة و أنها حول هوية مصر ، بين علمانية تفصل الدين عن الحكم و أصولية إسلامية – بحسب تعبيره – تريد أن تجعل من الشريعة حاكمة على كل شئون الحياة بما فيها الحكم .
سادسا : أهدر المقال متعمدا أي ذكر للفتح الإسلامي لمصر فكأن التاريخ طوي بين ” مينا ” موحد القطرين الذي جاء ذكره في أول المقال و بين ” صموئيل حبيب ” راعي الكنيسة الإنجيلية الذي قفز فوق أسوار السلفية الأصولية لينتهي عند العلمانية بمقولته (( أن الله فوق الأديان )) كما شرح المقال .
سابعا : لا عزاء للأزهر .. فقد وضعه المقال في صف الأصولية التي عملت على إجهاض المحاولات العلمانية المستنيرة في مصر ، فهو الذي فصل الشيخ ” علي عبد الرازق ” بسبب كتابه ” الإسلام و أصول الحكم ” و هو الذي وقف في وجه ” طه حسين ” بسبب كتابه ” الشعر الجاهلي ” و هو الذي انتصب لدعاوى ” نصر حامد أبو زيد ” حتى حكمت المحكمة بالتفريق بينه و بين زوجته لردته ..الخ
فالأزهر المرحب به اليوم غير الأزهر المندد به بالأمس !!
ثامنا : كشف المقال عن اهم مزايا العلمانية و هي تمييع الفوارق بين الأديان و إزالة الحواجز بين الإيمان و الكفر ، و هذا من أهم المتقابلات بين الدين و العلمانية التي أكد عليها الكاتب في هذا المقال و مقالات أخرى ، و هي ان الدين يحكم على مخالفه بالكفر و يجعل فارقا بين الحق و الباطل ، بينما العلمانية تؤمن بالنسبية فما هو حق اليوم قد يكون باطلا غدا و العكس ، و لا تكفير في العلمانية و الكل عندها سواء في قابليته للنقد !
تاسعا : لم يخل المقال من آلية التلاعب بالألفاظ المعهودة عند العلمانيين ؛ فهو يقرن بين رأسمالية متطفلة !! و بين الأصولية الإسلامية ، و يقرن في المقابل بين رأسمالية مستنيرة !! و بين علمانية منقذة للعالم ..هكذا !! متجاهلا لواقع يشهد بتوحش الراسمالية الغربية في البلدان العلمانية المستنيرة !! حتى التهمت شعوبا برباها الفاحش ، و أسقطت دولا في أزمات اقتصادية طاحنة لم تخرج منها حتى الآن !
عاشرا : ختم الكاتب المقال بحل لا مواربة فيه ، لا بد أن تنتهجه البلدان الإسلامية هو أن تمضي مع تيار التغريب إلى النهاية إلى تبني العلمانية الغربية كما هي في بلادها .. أن تتخلى عن هويتها الإسلامية التي تأخرت بها عن ركب الحضارة – بزعمه – لتلحق بغرب علماني لم يكتف بعرض بضاعته الكاسدة في سوق الأفكار و المبادئ و إنما فرضها بالحديد و النار على شعوب احتلها عصورا و استنزف خيراتها دهورا !!
إنها نهاية معبرة لمقال صريح يضع أيدينا على الاتجاه الذي تسير فيه الثقافة في مصر نحو تأسيس العلمانية الغربية ، و حمايتها بالقوة حتى يتسنى لها التغلغل في مؤسسات الدولة ، تلك هي العلمانية في زمن السيسي !!
و اخيرا .. لا شك ان وضوح الرؤية .. و استجلاء حقيقة الصراع .. و استبانة سبيل المجرمين مؤذن بقرب الأجل المحتوم .. و العاقبة المنتظرة .. و الوعد الحق .. ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة ، و لله عاقبة الأمور …
(( و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين . و نمكن لهم في الأرض و نري فرعون و هامان و جنودهما منهم ما كانوا يحذرون ))
(( و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون )) .
التعليقات