هذا السؤال يثير الكلام حول إشكالية منهجية (كانت عملية ثم صارت علمية عند البعض) داخل قطاع من التيار الإسلامي وهو القطاع المسمى بالسلفية التقليدية (ولا أخص به جماعة الدعوة بالأسكندرية أو حزبها)؛ وهو قطاع يمثل على أقل تقدير ضعف عدد الإخوان، ولكنه يفترق عنه في افتقاده التنظيم الجامع، ويتمحور في أكثره حول فكرة الشيخ وطلاب العلم الذين يحضرون دروسه المسجدية العامة (وإن كانت علمية تخصصية)!!
وهذا السؤال الذي يجعل السياسة خارج دائرة الدعوة، مطروح بقوة داخل ذلك القطاع السلفي دون باقي القطاعات كقطاع الإخوان الذي تبنى الممارسة السياسية من قديم، وإن لم يخلو من إشكاليات في الممارسة تم الإشارة إلى بعضها في مقالات سابقة؛أما هذا المقال فيلقي الضوء على إشكالية في مفهوم الدعوة لدى ذلك القطاع الذي يشكل الكتلة السائلة للتيار السلفي العام، والذي لم تكن السياسة ضمن اهتماماته وأولوياته، فضلًا عن أن تكون ضمن برامجه التربوية! هذه الإشكالية تستدعي نكيرا من العلماء الربانيين وسراة المصلحين!
فما بالنا ننكر على العلمانيين فصل الدين عن السياسة وننازلهم على شمولية الإسلام وعموم الدعوة.. ثم لا ننكر على من يفصل الدعوة عن السياسة ويقول: لقد خسرت الدعوة بدخولها معترك السياسة بعد الثورة؟!
ويا ليت المتكلم يتحدث عن خطأ نفسه أو عن فئته التي انعزلت عمليًا وتربويًا عن الحياة التي أمرنا بإقامة دولة الإسلام فيها؛ إذا لهان الخطب.. ولكنه يتحدث عن خطأ ينسبه إلى عموم التيار الإسلامي.. منصبًا نفسه أو شيخه أو جماعته وصيا على عموم التيار بدعوى احتكار العلم والفهم.. مستخدمًا في ذلك آلية التوحيد بين المنهج والجماعة، أو بين السلفية (كتعبير عن الإسلام الصافي الذي نقله لنا السلف) وبين الخلف المتسلفين المدعين صحة انتسابهم للسلف بالتزام شكلي وانتماء حزبي (والذي من صوره الانتساب لشيخ معين)!!
فبدلا من أن يدرك هؤلاء خطأهم في تربية الأتباع عمليا على خلاف ما يؤمنون به نظريا؛ إذ بهم يتمادوا في خطأهم ويضيفون إلى انحرافهم التربوي انحرافا منهجيًا شنيعا! لقد تمثل هذا الانحراف العملي التربوي لدى ذلك القطاع السلفي في التقوقع على الذات والانعزال عن إدارة الحياة فحرمت أتباعها من كل ممارسة بدورها أن تصنع قائدا فذا أو إمامًا كأئمة السلف الذين حاربوا بدعًا دعمتها السلطة.. فما تحججوا بحجة الاستضعاف.. كما فعل خلفهم.. ولو صح أن يتحجج بها أحد لكان غيرهم؛ وهم يظهرون للعامة بثوب العلماء!
وما كان الاستضعاف ليحتج به على واجب مقدور عليه.. فالمستضعفون من أهل العلم غير معذورين في ترك ما يقدرون عليه من جهاد الحجة والبيان.. ثم إن عامة المستضعفين مأمورون بالخروج من حالة الاستضعاف وإعداد العدة لكسره لا الاستسلام له.. وهو ما كان ينبغي عليهم التاصيل الشرعي له.. لا التاصيل لفقه الهوان والذلة المسمى فقه الاستضعاف.. الذي قلب موازين الشرع؛ فجعل من الأحكام الاستثنائية أحكامًا أصلية! وكانت النتيجة البائسة لذلك الانعزال أن انحصرت الدعوة في حس الأجيال الناشئة على الخطبة والدرس والموعظة.. وصار الداعية لقبا على الخطيب الواعظ! فإذا ما أسفرت الثورة عن مساحات من الحرية حرمت منها هذه الأجيال استدعوا ما آمنوا به نظريا ولم يعدوا له عدته.. فخاضوا ميدانًا أصيلا من ميادين الدعوة وهو ميدان السياسة.. وما حقيقة السياسة إلا تصريف آيات البلاغ في واقع الناس.. فلما أثمرت تربيتهم الحنظل.. وبان قصور عدتهم.. فبدلا من أن يعترفوا بخطأ تربيتهم؛ إذ بهم يستدلوا بفشلهم على استحالة تطبيق ما آمنوا به.. فبئست التربية وبئست ثمارها!!
إن عجز الإنسان أو قصوره في تطبيق الإسلام بشموله وكماله يستدعي مراجعة النفس ونقد الذات، والرجوع إلى الإسلام وقواعده، لا أن نتخلى عن رباطنا لنعمل في المساحات الآمنة التي يسمح بها الطواغيت موهمين انفسنا أن هذه هي الدعوة التي تخلينا عنها، وقد آن الأوان لنعود إليها، ولا نزعج الطواغيت من جديد!!
لكن مما يبعث الأمل في النفوس ما لاح في الأفق من بشائر الغرس الرباني المتمثل في شباب واعي واعد، حطم الأصنام في نفسه وفي واقعه، وتحرر من عبودية الوسائط البشرية، وأقبل على الوحي، لم يعد يقنع بالقنوات فقصد البحر؛ فاللهم احفظهم بحفظك، وأسبغ عليهم نعمتك، وافتح على أيديهم القلوب والبلاد.
التعليقات