تصدر مصطلح “الدولة العميقة” الأدبيات السياسية المصرية مؤخراً بصورة ممجوجة تدفع إلى الزهد فيه وربما الاستهانة بمدلوله أحياناً، وكان من أول من سمعت منهم المصطلح هو فيلسوف الحركة الإسلامية العلامة رفاعي سرور رحمه الله، إلا أن الرجل كان يبلور الموضوع بما يظهر حقيقة تغلغل “الدولة العميقة” بأذرعها التسعة في كل مفاصل الدولة وربما أقوى كثيراً مما يتبادر للأذهان. وتمثل هيكلية هذه الدولة الموازية مؤسسات القوى الصلبة بدءا من المجلس العسكري و ذراعه الأمني “المخابرات” والداخلية وجهاز “الأمن الوطني” ثم النظام القضائي، ثم طبقة رجال المال والأعمال المنتفعة من النظام السابق، فالميليشيات المنظمة للحزب الوطني، فالإعلام، فالجهاز الإداري للدولة. وتعتمد استراتيجية الدولة العميقة والتي أدارت الثورة المضادة على تجميل وجه النظام القديم عن طريق تلميع بعض من تبقى من رموزه الأبرز؛ ربما كمقدمة لأحكام مخففة لمبارك وحبيب العادلي بعد الاستئناف والنقض، وربما لإعدادهم لأدوار في مصر الجديدة التي ثارت عليهم منذ فترة وجيزة؛ كاللواء عمر سليمان والذي كان هو القائد الفعلي لهذه الدولة المزعومة قبل وفاته في ظروف غامضة، والفريق أحمد شفيق المرشح السابق للرئاسة. وقد أسفرت عمليات التجميل هذه عن أصوات كادت توازي أصوات الرئيس مرسي في الانتخابات الماضية تحصلت في مجموعها من المنتمين للحزب الوطني وهم بالملايين وكثير من أفراد الداخلية وبعض الأصوات الطائفية الخائفة أو المخوفة وشريحة لم تظهر إلا في هذه المرحلة وهي جزء من الكتلة السائلة في المجتمع والتي تبحث عن القوت والأمن ولو كان ذلك باستنساخ نظام مبارك مرة أخرى. وبدا دور الفساد المتغلغل في أجهزة القضاء واضحاً في الأحكام السريعة والمسيسة التي فاجأت الجميع بدءً من أحكام البراءة الجماعية لكل قتلة الثوار بمختلف مستوياتهم وانتهاءً بالحكم الماراثوني بحل مجلس الشعب بعد يوم واحد من قرار الرئيس بإعادته.
أما دور النظام الإداري للدولة فقد اقصر على افتعال الأزمات طوال مدة ما بعد الثورة وتعويق خطة الرئيس للمائة يوم الأولى في ظل غياب رؤية واضحة من الحزب والجماعة التي ينتسب إليها السيد الرئيس
أما دور النظام الإداري للدولة فقد اقصر على افتعال الأزمات طوال مدة ما بعد الثورة وتعويق خطة الرئيس للمائة يوم الأولى في ظل غياب رؤية واضحة من الحزب والجماعة التي ينتسب إليها السيد الرئيس لتحقيقها وتطبيقها إلا الدعوة إلى تفعيل العمل الشعبي للخطة وكأن هدفها هو إحياء العمل التطوعي لا الحل الجذري والإداري لهذه الأزمات التي يئن منها المواطن البسيط!! وبدا واضحاً أن ما حدث مع القوى الإسلامية المستدرجة في مجلس الشعب والجمعية التأسيسية يتكرر مع الرئيس مرسي عن طريق محاصرته وتشويه صورته ونصب الفخاخ له لتكثر أخطائه أو إيقاعه في دائرة العجز؛ كإقناعه بعدم حضور الجنازة العسكرية لشهداء الحدود بعد نصيحة الأجهزة الأمنية له ـ دون خجل ـ بعدم التواجد هناك لتهديدات أمنية!! وأخشى ما أخشاه أن تكون هي تهديدات عكاشة البذيئة والصبيانية، كما لا يخفي على أحد التطاول المستمر والفج والمفضوح بصورة مستمرة لإسقاط هيبة الرئيس عند عموم الناس من بعض صعاليك ومرتزقة القضاء والإعلام. وتعد أخطر قضية في حق الرئيس حتى الآن ـ من وجهة نظري على الأقل ـ هي التعامل مع أهالي سيناء بعد حادث رفح والذي كان من الواجب أن يلتفت إليهم الرئيس مرسي في قراراته الأولى هم وأهالي النوبة وعوضاً عن ذلك فقد عاد التعامل معهم كإرهابيين وتلفيق الاتهامات لهم ولأبنائهم والاجتياح الجوي والبري لديارهم مرة أخرى بينما كان الواجب هو القبض على المشتبه فيهم والتحقيق معهم وإثبات التهم عليهم بالأدلة الراسخة قبل إصدار الحكم والتنفيذ ميدانياً في “عملية شريعة الغاب” التي تتم الآن. يتواكب ذلك مع الهجوم الكاسح من بعض الخلايا الإعلامية المدفوعة من أمن الدولة السابق للترويج الأكاذيب تجاه الأشراف المفرج عنهم من خصوم النظام السابق عامة والإسلاميين والإخوان خاصة وهنا تجدر الإشارة إلى خطورة مظاهرات 24 أغسطس التي دعت إليها أبواق الثورة المضادة بالتحالف مع فلول النظام.
وأخيراً أقول للرئيس:
إن غيابك عن جنازة جنودنا خطأ فادح، ومستشاريك غير كفء، ومن حذروك إنما أرداوا أن يمحوا صورة الجاكيت المفتوح دون واقي من أذهان الناس، وأن أهالي سيناء يحتاجون إلى حلول غير أمنية، وأن أي رئيس لمصر في مرحلتها الحالية لن ينجح إلا إذا اتخذ قرارات غير تصالحية، مصيرية حاسمة وهائلة تكسبه الشارع وتجعل الانقلاب عليه حلماً غير ممكن كما فعل عبد الناصر في أول عهده.
التعليقات