لم تنته بعد تداعيات زلزال رفح الأخير وما زالت أصداء التوابع المذهلة للقرارات الثورية الجريئة التى أطلقها الرئيس المصرى تتردد فى كل بيت وفى أسماع كثير من المصريين، وكالعادة آثر الدكتور محمد مرسى أن يكون الرجل المفاجأة؛ فالرجل غير العسكرى والذى يفتقر إلى ما سموه «الكاريزما» من وجهة نظر البعض على الأقل أثبت أن حب الوطن أقوى من حب الذات، وأن سنوات السجن فى سبيل الحق والحرية تعلم الرجال كيف يجازفون وتقلل من حساباتهم الشخصية.
والرجل الذى ينتمى لجماعة الإخوان المسلمين ذات النهج الإصلاحى التصالحى طوال تاريخها مما انعكس على حراكها السياسى ما بعد الثورة أيضاً، استطاع أن يثبت أنه بدأ ينفصل حقاً عن الجماعة بشكل عضوى وأن مكتب الإرشاد ليس هو من يدير الموقع التنفيذى الأخطر فى مصر كما زعم البعض، فأى منصف ومتخصص يعرف جيداً أن مثل هذه القرارات لم تكن لتصدر من جماعة الإخوان التى هى أبعد ما تكون عن الصدام.
وغالب ظنى أن زلزال رفح الصناعى إنما أريد له أن يطيح بمقعد الرئاسة ومن يجلس فوقه وأنه كان مقدمة لتحركات أوسع على أرض الواقع، فقد نصح بعض مستشارى الرئيس بعدم الذهاب لجنازة إخواننا شهداء الحدود بدعوى التهديدات الأمنية، كما كانت أحداث البلطجة المخزية التى طالت بعض الرموز رسالة واضحة من أذناب الثورة المضادة بأنهم ما زالوا هنا.
جاءت القرارات موفقة وسريعة، وإن لم ترض الجميع بطبيعة الحال، فما فعله الرئيس أكثر من المتوقع وربما من الممكن أيضاً، ورغم أن العرف السياسى فى جميع دول العالم المتقدمة والمتحضرة يقضى باستقالة أى وزير أو مسئول تقع تحت مسئوليته كارثة كتلك التى أصابتنا فى رمضان والتى يعلم الجميع أنها ليست الأولى من نوعها، فإن هذا للأسف لم يحدث على مدار أكثر من اثنين وعشرين سنة تُنتهك فيها الكرامة المصرية والدماء المصرية.
وقد تسببت قرارات السيد الرئيس فى أن تطفو بقايا الدولة العميقة على السطح
وقد تسببت قرارات السيد الرئيس فى أن تطفو بقايا الدولة العميقة على السطح، فقد طالت المجلس العسكرى بجبروته المعروف وبعض توابعه الأمنية كالمخابرات والشرطة العسكرية، وكذلك بعض خلايا الإعلام المأجور والفاسد متمثلة فى «فراعين» عكاشة، وهو ما دفع الأصوات الأخرى للخفوت والانزواء، فقد ثبت للجميع أن مصر صارت برأس واحد لا رأسين وأن الرجل يمسك بتلابيب الأمور بصورة جيدة.
ولا ينبغى أن تغيب عن المشهد تلك التحركات المريبة التى تزمع بعض الأطراف المستهلكة والمشبوهة إطلاقها يوم الرابع والعشرين من الشهر الجارى، فقد تزعمها أشخاص تاجروا بالثورة حيناً قبل أن تسقط الأقنعة ويتحولوا إلى أبرز داعمى مرشح النظام السابق، كما أنها مشبوهة أيضاً لمطالبتها «بإحراق» مقرات الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، فى خروج سافر عن العرف الحضارى والسلمى الذى دشنته الثورة المصرية حتى صار أيقونة لها، وكذلك الطبيعة المصرية المسالمة والمتحضرة. غير أن الدعوة تثير الريبة فى نفسى، فمن الممكن أن يكون المقصود بها لفت الأنظار عن شىء آخر لم يعلن عنه والأيام ستبين بلا شك صحة هذا الظن من عدمه.
ثمة قضايا أخرى لا ينبغى أن تغيب عن ذهن الرئيس فى خضم الانشغال بالتغييرات الجذرية فى المشهد السياسى الداخلى، وهى قضيتا أبناء سيناء وأبناء النوبة، وهى قضيتان كما لا يخفى على أحد صارتا وجعاً مزمناً فى الكيان المصرى كله حتى اعتاد الناس عليهما وكأنهما قدر محتوم، وكلا الاتجاهين الشرقى والجنوبى يمثل عمقاً استراتيجياً لمصر وإن كان العمق السيناوى هو الأخطر، فقضايا كالهوية والمياه والأراضى غير الكاملة الملكية والأحقية فى خدمة الوطن من خلال مؤسسات الجيش والشرطة؛ هى كلها قضايا عالقة تحتاج إلى الحل السريع والعاجل والناجز قبل أن تنفجر فى أية لحظة وتأتى على الأخضر واليابس.
كما ينبغى أن تكف السلطة فى مصر -أية سلطة- عن التعامل الأمنى مع أبناء القبائل هناك، فقد أثبتت التجارب أنه لا جدوى منه أصلاً بل لا أبالغ إذا زعمت أنه لا يزيد الأمور إلا سوءاً.
التعليقات