تتسم الجاهلية عبر تاريخها بسمة من أخطر السمات ،ألا وهى ” توريث الخبرات” ، حيث تنقل الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة خلاصة خبراتها في مواجهة الحق وأهله ، مما يوفر للأجيال الجديدة خبرات متراكمة تساعدها على مواصلة مسيرة التدافع ضد المؤمنين، يقول تعالى حاكياً عن المجرمين” قال الذين حق عليهم القول ” رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ..“( القصص) فاللاحق يغوي معاصريه بنفس أساليب غواية السابق لجيله، والكبير ينقل خبرته للصغير حيث ورد في قصة غلام الأخدود أن الساحر قال للملك” إني قد كبرت فأبعث إلي غلاما أعلمه السحر فبعث إليه غلاما يعلمه” (مسلم).
والمتأمل لكيفية تعامل النظم العربية مع ظاهرة الثورات الشعبية يلاحظ :
– استقاء هذه النظم الطاغوتية لخلاصة الخبرات التاريخية الجاهلية في مواجهة و امتصاص الصدمات الفجائية التي مثلتها الثورات .
– حرص الأنظمة على إهدار زخم الانتصارات التي حققتها الشعوب وتفريغها من مضامينها الحقيقية .
أولاً:امتصاص الصدمات ” أرجه وأخاه”:
عرض واحد تقدمت به أغلب النظم العربية ” تونس – مصر – اليمن – سوريا” عند بداية اشتعال الثورات يتمثل في الوعد بإجراء اصلاحات متنوعة خلال فترة زمنية بسيطة تصل لستة أشهر أو سنة على أكثر تقدير ؛وعند تصاعد الأحداث وعد بعض الرؤساء بالتنازل عن السلطة وإجراء انتخابات رئاسية نزيهة.
وهذا الأسلوب الذي اتبعته النظم العربية في مواجهة الثورات أسلوب جاهلي قديم يقوم على فكرة إعطاء مدة زمنية كافية لامتصاص الصدمة والتقاط الأنفاس والترتيب لتدبير المؤامرات للقضاء على المعارضين، ولنتأمل النمط الفرعوني في التعامل مع موسى عليه السلام عندما جاء بالآيات البينات التي صدمت فرعون وزلزلت كيانه ، يقول تعالى “قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ . قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين . فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ” (الشعراء) “فعندئذ طلب فرعون المشورة من أعوانه “قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ” ( الشعراء) فنصحوه بتأجيل المواجهة واخذ مهلة زمنية تمكنهم من إعداد مكيدة لهزيمة موسى عليه السلام بالتنسيق مع السحرة”قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ. وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ” ( الشعراء).
وهذا البيان الرباني لأسلوب عمل العقلية الجاهلية:
– يدحض كل الدعاوي المطالبة بإعطاء فرص للأنظمة الاجرامية من أجل القيام بخطوات إصلاحية ، إذ تستغل هذه الأنظمة هذه الفترات لترتيب المؤامرات واستعادة التوازن من أجل القضاء على أعدائها والعودة بالأمور للمربع الأول.
– يستدعي أن تظل الشعوب متيقظة لما يحاك لها وأن تضغط بقوة كلما رأت انحرافاً أو تباطؤاً في السير في خطوط الإصلاح.
ثانياً:اهدار الانتصارات ” واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان”:
تحرص الجاهلية على اهدار قيمة الانتصارات والنجاحات التي يحققها أعداؤها ،من أجل اشعار الأفراد بعدم قيمة أفعالهم وعدم قدرتهم على التأثير الحقيقي في موازين القوى مما يولد لديهم التوجس من أي مشروع تغييري ومن خلفيات القائمين عليه، ويجعلهم في حالة دائمة من الرضا بالأمر الواقع ، واضرب لذلك أمثلة قديمة وحديثة توضح هذه السمة الشيطانية الخطيرة:
1- ملك سليمان:
مثل ملك سليمان أقوى صورة من صور التمكين للفئة المؤمنة عبر تاريخها الطويل إذ دعا سليمان قائلاً ” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ “)ص ( ويقول تعالى “وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ” ( النمل – 17).
فسعت الجاهلية لاهدار قيمة هذا المُلك وتشويه حقيقته، و لما كان السحر قد انتشر في عهد سليمان أمر بجمع كتب السحر ووضعها تحت كرسيه، فلما مات زعمت الشياطين للناس أن سليمان كان يحكم بالسحر وأن الكتب التي كان يستعين بها في حكمه مدفونة تحت كرسيه فبحث الناس عنها ووجدوها أسفل كرسيه وصدقوا أن سليمان كان ساحراً وفي هذا يقول الله تعالى ” وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ”
2- قريش والوحي:
لما نزل الوحي بصورة معجزة أعجزت قريش عن مجاراته أو الاتيان بمثله زعموا أن أحد الرجال يعلم القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم ” وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ “ (النحل)
3– الحرب مع روسيا:
سطر المسلمون في الحرب مع روسيا في أفغانستان ملاحم بطولية ابهرت العالم، فلما انتهت الحرب ، زعمت الجاهلية أن انتصار المسلمين كان بسبب الدعم الأميركي ، فلما اشتعلت المعركة بين بعض المشاركين في الحرب ضد روسيا وبين أميركا نفسها، وتعرضت أميركا لهجمات سبتمبر الشهيرة ، زعموا أن أميركا هي التي ضربت نفسها لتبررخططها ومشاريعها التوسعية للسيطرة على العالم.
4-الثورات العربية:
عندما قامت الثورات العربية لتطالب بحرية الشعوب واستقلالها الحقيقي عن التبعية للغرب والمضي في طريق الاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، اخذت الجاهلية تحاول اهدار هذه الثورات عن طريق تشويهها والزعم أنها جزء من مشروع الفوضى الخلاقة لإعادة تشكيل دول المنطقة بما يخدم المصالح الغربية ، وظهرت الاتهامات للثوار بتلقي الدعم والتدريب من الغرب، مما يصيب الانسان بالتعجب من وصف ثورات قضت على أبرز وأقوى عملاء الغرب بأنها صنيعة غربية.
ختاماً:
تظل كلمات الوحي نوراً تتبين به الحقائق ويفهم به الواقع، يقول تعالى “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ” ( النحل).
التعليقات