نهر النيل هو السبب..
هو السبب في أن مجتمعنا يبدو أكثر تشبعا بروح العبودية مقارنة بغيره من المجتمعات.. كيف؟
تذكرون فيلم “شيء من الخوف”؟ تذكرون مشهد (غلق الهويس) والذي كان يمثل عقابا جماعيا من (عتريس) لقرية الدهاشنة؟ هذا المشهد يمثل ويكثف المشهد المصري عبرة آلاف من السنين: السلطة.. والشعب.. ووسيلة التسلط.
هذه ليست خاطرة عنت لي عند مشاهدة الفيلم، بل نظرية علمية تتحدث عن الخصائص السياسية التي تميز المجتمع الزراعي عموما. لكن ما هي العلاقة بين طريقة العيش بالزراعة وبين تأليه الحاكم؟
يحكي لنا الدكتور جمال حمدان في كتابه (شخصية مصر) قصة ظهور (الحاكم الإله) على ضفاف نهر النيل منذ بدء الحضارة، فالنيل جذب الإنسان ليتواجد بكثافة على جانبيه، لكن ظهرت عقبة كؤود، يستحيل أن يستفيد أفراد المجتمع من نهر النيل بشكل قَبَلي متناثر، مثل استفادة القبائل من الآبار مثلا، لأن واحدية المجرى المائي، واندفاعه من الجنوب المرتفع إلى الشمال المنخفض يعني كارثة، أنه يعني أن كل قبيلة قادرة على التحكم في القبائل التالية لها على مسار النيل، طبعا هذا مستحيل مع المجرى الأساسي للنيل، لكنه يحدث في المجاري الفرعية له.
ومن هنا اصطدمت القبائل ببعضها صداما دمويا لفترة، حتى أوشكت ميزة وجودهم إلى ضفاف النيل أن يكون سبب فنائهم لا مصدر حياتهم، فظهرت الرغبة في ترجمة الحب الجماعي للحياة، والتجنب الجماعي للموت، في شكل عمل سياسي هدفه تنظيم نهر النيل بين الجميع.. ومن هنا ظهرت فكرة (الدولة) التي فوق رابطة الدم وفوق الجميع.
هذه الدولة ….. أدركت أنها تمتلك حياة الناس وموتهم، وبسرعة بدأ نفوذ الدولة يتزايد، وبدأت تمتص من الشعب كل احتياجاتها
هذه الدولة التي خلقها المجتمع المصري كأداة لتنظيم الري، أدركت أنها تمتلك حياة الناس وموتهم، وبسرعة بدأ نفوذ الدولة يتزايد، وبدأت تمتص من الشعب كل احتياجاتها، لا لإنجاز مهمتها، ولكن لإحكام نفوذها، من جيش وضرائب وموظفين وخلافه.
وهنا احتال الإنسان على نفسه كعادته، فبدأ بصبغ واقعه صبغة دينية، فتحول النيل إلى شيء مقدس، وتحول الخضوع القهري للحاكم إلى واجب يؤدى لحاكم إله مقدس وليس مجرد منظم لمياة النيل، ومع مرور الوقت انعدم نظريا عبادة النيل والحاكم المصري، لكن بقيت المادة الشعورية الخام التي صدرت عنها العبادة قديما، بقيت كامنة في نفوس المصريين لأن اساسها لا زال قائما.
لكن كيف نشاهد العبودية الآن عند فئات من الناس لا تشتغل بالزراعة، ولا تشتغل بوظائف رسمية تدور في فلك الزراعة؟
الحقيقة أن الرغبة حين تتأصل في النفس، تتحول إلى وسيلة استمتاع، وتستقل عن ظروف نشأتها وعن الظرورات التي أوجدتها، ويتم توريثها ضمنيا لأجيال وأجيال، حتى تصبح سمة عامة للمجتمع، وتظل كذلك حتى عند أفراده المستقلين معيشيا عن الدولة.
لذلك لا تزال آثار العبودية بادية على الشعب المصري رغم قدرته على إحكام السيطرة على الدولة.. ولا تزال آثار الاغتراب عن المجتمع عند التيار الإسلامي رغم زوال اسباب الاغتراب موضوعيا.
لكن الواقع دائما ما يبخل علينا بالنهايات السعيدة.. (فؤادة) انتصرت في الفيلم.. أما (رابعة) تم إحرقها حية.. ولا عجب.. فـ (رابعة) هي قصة إسلامية.
التعليقات